# # # #
   
 
 
[ 09.07.2011 ]
رسالة للانقلابي عمر البشير في يوم ذهاب السودان 9 يوليو2011 ـ محمد فاروق سلمان




 
لم أكن يوما متحمساً للكتابة إليك، فمخاطبة شخص ما تعني رغبة في الحوار معه، وأنا دائما ظللت مؤمنا بان العلاج الوحيد لعدم شرعية وجودك في سدة حكم هذه البلاد هو إسقاط النظام غير الشرعي الذي أقمته، وليس الحوار معك. وان كان لا مناص من حوار بيننا كسودانيين فليس معك أنت بأي حال، فما صار لك أنت شخصياً من هذا الوضع يجعلك آخر من ينصت لأي رأي آخر قد ينال مما صار إليك به، (وهذا ما أحسه حتى من دفعوك لهذا الأمر أخيرا). وقد كان هذا موقفي دائماً منك وممن هم يقربونك في دولة البطش والجهالة التي أقمتها. فهؤلاء آخر من يقر القبول برذيلة جرائمه بعد أن فقد فضيلة الإقرار بخطئه في وقت كان من الممكن إصلاح ما ذهبتم إليه.

لهذا كنت ومنذ سنوات دراستي الجامعية والتي امتدت لعشرة أعوام دراسية (لنظامك بعض الفضل في هذا) حريصا على الحوار مع زملائي من أعضاء ما عرف بالحركة الإسلامية في الجامعة. حوار لم ينتهي أبدا في منابر الحركة الطلابية وأركان النقاش بل استمر في البنشات وامتد للغرف في الداخليات في نقاشات احتدت أحيانا، وكانت هادفة كل الأحيان. ساعد في هذا أن ربطتني علاقة تواصل جيدة بالكثير من أبناء دفعتي من قيادات هذه الحركة: علي عبد الفتاح، الناجي عبد الله، محمد خير، موسى المهدي، حسن حسين، محمد حسين، وغيرهم من أجيال لاحقة.

هذا الحوار كان إيمانا مني بان الإنسان مجبول على الفضيلة وانه إنما يرتكب الشر مكرها أو جاهلاً، وقبل هذا أن لا احد يملك أن يدعي امتلاك الحقيقة وحده وهذه علة الشمولية الأولى. اكتب الآن استمرارا لهذا الحوار، مع فتية منهم من دفع شبابه وحياته ثمناً لفضيلة طلبوها لا يمكن أن يحملها فساد حكمك الآن، وما علم عن ثراء آلك، وبطانتك من أهل الحكم. وما هو أكيد من تدهور وضع بلادنا، وانفراط عقد وحدتها، وضيق العيش، وعطالة أهلها.

أيضا اقصد بهذه الرسالة كثير ممن هم في جهاز الدولة إن بقى شيء منه، ممن ظنً أن في بقائك حفاظ على سيادة البلاد أو كرامتها حتى ولو تشظى ترابها. فالمهم عندهم صار كرامة رمز عزة البلاد وليس كرامة البلاد أو كرامة البلاد وليس أهلها في أحسن الأحوال! والى من ظن أن بقائك ليس حجر عثرة أمام تطور السودان ونموه، عسى أن يسألوا معي هذه الأسئلة التي اطرحها أو يجدوا إجابة لها عنك وليقفوا بعدها خلفك ذوداً لك أو أمامي في السعي لإسقاط نظامك والنضال لإنقاذ ما تبقى ومن تبقى من البلاد، وقاطنيها، منك وممن هموا خلفك. وفي كل هذا خير يدفعني للكتابة إليك، وهو أمر سبقني إليه من هو اكبر مقاما ومقالا في من ذهب لضرورة الحوار بين شرعية القانون، وشرعية القوة في بواكير أيامك، أو من طالبك بالتنحي طائعاً قبل أن تكره إلى هذا، أو من تكشف له غيك، وكتب يشكو كيف خدع في شخصكم، هو وشيوخه بعد أن زيُن لهم خداع غيرهم ابتداءً في خواتيم أيامك هذه، وهذا ما يقوله المنطق وسيثبته التاريخ. وبيني وبين كل هؤلاء ما بين عشرون عام هي عمري عندما وصلت للحكم عبر انقلابك المشئوم، وأكثر من أربعين عاما هي عمري الآن على طول امتداد سنوات حكمك، والتي أظن أن جيلي أكثر من تظلم منك، فقد صادرت حاضره ومستقبله.

سأكتب ليست عني أو عن بشير وبكري جابر، ومدوت، ودوماج وانطونيو ومحجوب ومهيد وزكريا قرنق وعماد وعبد النبي وابراهيم فتح الرحمن وعادل وقرشي وناتالي وديو واسماعيل واسماعيل. وليس عن فوزية، وماجدولين واقبال وبهجة ونضال وستيلا والهام وناهد واميرة واميرة وشذى ونهلة، وقائمة طويلة ممن قاوموا بطشك، وظلمك. هؤلاء الذين بينهم أصدقاء بشير، وأصدقاء سليم، ورفاق التاية وطارق ومحمد عبد السلام. وبينهم أيضا الذين طردوك من الجامعة في منتصف التسعينات.

لن اكتب عن هؤلاء وحسب، ولكن أيضا سأكتب عمن ظن الفضيلة في نظامك. وظن انه إنما يقيم نهضة البلاد بتقديمك لحكمها. منهم من مضى قبل أن يراها تتقسم، ويرى أهله البسطاء يذلهم العوز، للذين هللوا لما رأوك تنزع أملاك الميرغني والمهدي، وتزعم إعادة توزيعها لمن هم أهلها بحق، وذهبوا قبل أن يروك تعيدها لهم، وتأخذ لأهلك أضعاف ما اخذ آل الميرغني، وآل المهدي!

سأكتب عن علي عبد الفتاح، وحسين حسن حسين، وابودجانة، وناجي، ومحمد، وابراهيم...سأكتب عن جيل كاد أن يرى السلام واقعاً، وثورة الياسمين قبل أن تكون ياسمين. عن جيل حسب انه شهد موات محاكم التفتيش مع إعدام الأستاذ محمود محمد طه، وان بلاده باتت بلاد الحرية ستستقبل قرنق في يوليو 89، ولكن ليس في الساحة الخضراء، وليس نائبا أول للرئيس، ولكن كمواطن سوداني لن يشهد تقرير مصير الجنوب، وسيواصل كفاحه من اجل تحرير كل السودان بالانتصار لمهمشيه، وبإعادة الكرامة لمن عاشوا في حواشي ثقافة المركز، وظلوا وهم أهل البلد تدني منهم السلطة الاجتماعية، وتعزز مناهج الدولة وسلطتها من هذا الواقع وظلمه. جيل دفعت به أنت لحرب وضعت أوزارها فأعدت إشعالها. جيل نابض ظن انه يشهد موات مسرح الرجل الواحد في كل شيء. جيل عقد الجلاد والسمندل والهيلاهوب وهلال ومريخ الثمانينات. جيل بدأ مجتمعه أقوى من دولته اعرض عن مذكرة الجيش كما اعرض عن صحافة ألوان والوطن. جيل ظن انه ملك حاضره، وانطلق يخط مستقبله، جيل الانتفاضة. فأتيت أنت وأجهضت كل هذا في الثلاثين من يونيو في العام 89.

عندما أتيت في هذا التاريخ كنا على وشك أن نطوي صفحة أطول حرب أهلية شهدتها بلادنا وحسب قبل أن تكون أطول حرب أهلية في العالم. وكان لمبادرة السلام السودانية أن تصبح واقعا، وكان السيد رئيس الوزراء بصدد إعلان تجميد قوانين سبتمبر في السبت الذي يلي جمعة انقلابك المشئوم، وإعلان تهيئة المناخ لتنفيذ الاتفاقية من وقف إطلاق النار، والإعلان عن مؤتمر دستوري، والكثير مما كان يعيد للبلاد أمنها واستقرارها بعد مطاولات ارهقتنا، وأضاعت وقت ثمين من بلادنا، ظننا أنها سافية الأثافي قبل أن تظلم ديانا بك ونرى قصور ظننا. أتيت حتى لا تسلم البلاد للأعداء، ويتناولها العملاء، وينالوا من وحدة ترابها وامن شعبها!!

عندما أتيت كانت كثير من مؤشرات اقتصاد البلد أفضل مما صارت إليه بعدك. وكان اقتصادنا يعتمد على مشاريع إنتاجية قيَمة محورها ما زال الإنسان ومازالت بعافيتها الكثير من المشاريع الزراعية والصناعية، وبحسبكم وعلى أسوأ الأحوال كان الدولار سيساوي عشرون جنيها إذا لم تأتوا! فصار إلى عشرة أضعاف هذا الرقم وانتم تقودون "إنقاذ" البلاد من ذلك الانهيار.

كنا ندخل الجامعات من المدارس الحكومية، وكانت المشكلة الأكبر أن نسبة منسوبي مدارس العاصمة اكبر من منسوبي مدارس الأقاليم، إذ أن تدهور التعليم والتفاوت في تلك الأيام كان بين مدارس الحكومة، ولم يكن للمدارس الخاصة شان إذ كانت ملاذ من لا يجد فرصة في التعليم الحكومي ممن تدنى مستواهم.

كانت الفرص متساوية بين أبناء المدير والخفير والغني والفقير. وكان المستقبل فاتحا ذراعيه أمام كل مجتهد، لا يزيد في فرص احد كم ملك أباه، ولا يقلل منها عوز أهله. وعلك والكثيرين ممن حولك خير دليل على هذا، فلا احد يحتاج لان يسمع بك أو بالكثيرين ممن هم حولك حتى ملكتم أمر الناس، واخترتم لهم ما لو اختير لكم لكان الكثير ممن هم حولك لا يعرف كيف يفك الخط، ناهيك عن درجات تحصلوها في أمريكا وأوروبا على حساب دولة لم تكن تعي بأنها إنما تدفع بالأمام لمن سيحط من قدرها وسيعود بها للوراء قرونا، ويكون سبب شقاء أهله، حتى وان ظنت انها إنما تدفع بهم ليسهموا في بناءها وتطورها، ويكونوا سبب رفاه أهلهم!!

انا من مدينة الدويم. بني فيها المرحوم خليل عثمان أكثر من مدرسة، والكثير من العنابر بمستشفاها. تعلم أهله في المدارس التي بناها، وكان حتى هو يعالج في المستشفى العام، والوحيد المملوك للدولة إذا مرض في الدويم. لم نعرف عمليات تقام في مشافي خاصة، ولم يكن هنالك مكان أكثر تأهيلا من مرافق القطاع العام الصحية. الآن يراك السودانيون تفتتح بنفسك المستشفيات الخاصة!! وتخاطب احتفالات الجامعات الخاصة، وفي غرور وهزء من أهل السودان تستبدل الرقيص بالهتاف: الآباء يريدون تخفيض الرسوم، وأنت رئيس الدولة!!!

في السبعينات رأى خليل عثمان، رحمه الله، وهو يعبر بالمعدية إلى مدينتنا، بنات الدويم في الثانوي العالي، يفوجن إلى مدرسة كوستي الثانوية للبنات، فبني مدرسة ثانوية للبنات في الدويم. كان الناس بخيرهم أثرياءهم يحملون هم محتاجيهم ويجدونهم دون أن يحوجوهم مذلة السؤال. وفي عهدك حتى الخير انقطع من مترفينا، وصار أثرى أهل السودان لا يبنون فصولاً، أو يشيدون العنابر في مستشفيات الحكومة، بل يملكون أغلى المدارس ويديرون أفخم المستشفيات الخاصة. في تلك المدارس والتي لا يقدر عليها حتى بعض الخاصة من الأثرياء يدرس أبناء مسئولي الدولة ووزراء حكومتك ونافذيها: إن قدروا على رسومها سؤال وان لم يحتاجوا أن يدفعوا سؤالين وكونهم قصدوا بأبنائهم غير مدارس الدولة التي يقومون بأمرها إجابة تغني عن كل الأسئلة!!.

أن يكون اكبر انجاز لك هو عبورك الأجواء الدولية وتحدي أي قرارات "تنال" من سيادتنا شيء مشين. والمشين أكثر ان الاتهامات التي تطالك كمجرم حرب لا علاقة لها بحربك لتحرير فلسطين، ولا غزواتك لأوروبا وأمريكا، نصرة للمستضعفين، ولكنها لما تم توثيقه من جرائم مؤكدة في دارفور، وقراها التي حرقت، وما زلت اذكر خطاباتك: ما دايرين اسير او جريح ...
وأنت تحكمنا طيلة هذه الفترة لم تعي أن العالم لن تحكمه المصالح وحدها وهي التي لن تجعل بوصلتنا تتجه شرقا لان الغرب قد يعاديك ولا غربا لان الشرق اقبل عنك، لغة المصالح نفسها التي سكتت عن مبارك وبن علي زمنا، وانقضـّت على القذافي وشعب ليبيا عندما واتتها فرصة، هي نفس اللغة التي جعلت الصين تقبل عليك، وتحل الهند محل تاليسمان الكندية. وهي نفس اللغة التي جعلت من السودان سودانيين، عندما صرت أنت اضعف حلقاته!! فالمخاوف والمطامع أيضا من صميم مصالح الشعوب، وبعيدا عن لغة المصالح، العالم أيضا تحكمه ضمائر الشعوب وطموحاتها وتحكمه الاستنارة، وتطلعات الإنسان للأفضل دائما، وأشواقه لقيم كالعدالة والمساواة. نفس العالم الذي يخوض حروباً كثيرة بنى حضارات أيضا. ونفس الإنسان الذي قتل أخيه الإنسان كان عوناً لأخيه الإنسان، وسندا يكافح من اجل حياته، حتى وان بذل حياته هو ثمنا لبقاء أخيه. لم تكن من الذين يناضلون من اجل أن يكون العالم مكانا أجمل للجميع، ولم تدخر جهدا حتى تجعله مكانا أقبح، فصارت سنوات حكمك من أسوأ انجازات البشرية التي اختتمت بها قرن واستقبلت بها قرونا جديدة.

أكثر ما يؤلم إننا لا نستطيع تخيل حالنا لولاك. لا نعرف ماذا يعني أن نستبدل عشرين عاما من الحرب بالسلام. ولا نعرف أن ينهار جدار برلين، ونحن خارج جدرانك. ولا نعرف اثر ثورة المعلوماتية والألياف الضوئية، لو أتت قبل معاول ثورة التجهيل العالي. ولن تعرف أن يكون الإنسان هو أخ وأخت لكونه إنسانا قبل كل شيء. زرعت الكراهية بين أجيال كثيرة، وأردت حياتنا مع بعض أن تكون حرب، تليها حرب، حتى لتتحاشى أن يكون الجميع في حرب ضدك، حاربت كل شيء: العلم والعالم وغالطت التاريخ ولو فعلت هذا وأنت تلعب السيجة في فناء دارك الذي لم تكن لتمتلكه في كافوري.. لما توقف بنا التاريخ ولما عادت بنا عجلته للوراء ولكن فعلت هذا وأنت تتقلد أكثر منصب أنت غير مؤهل له.

كم أشفق على أهلي وهم يهللون فرحا بتبرعاتك لهم من مالهم في خطاباتك التي تبدو فيها كملك من عهود الإقطاع في أوروبا بقدر ما تتملكني الحيرة من أمرك! هل تصدق فعلاً: انك تهبهم شيء أنت تملكه؟

هل هناك مثالاً أسوأ لإدارة بلاد باستجداء رضاء الناس وتهليلهم بنثر مال الدولة في خطب رئيس أو وزير أو والي وتقديمه كرشوة لشعب يجهل انه إنما يرشى من ماله؟؟ وهل هنالك أكثر من هذا احتفاء بالفساد، وسوء الإدارة، وانعدام المؤسسية، وغياب الرقيب والحسيب على المال العام؟؟
وتحيرني أكثر ابتساماتك ورقصك في خفة وطرب لا يليقان بمقام من هو في ظرفك. فأنت إما ناكص عن يمين، أو مقسما بيمين ستنكص عنه بعد حين. لا اعرف فيما طربك ولما رقصك وقد هلك الكثيرون، وفقدنا الكثيرين، مما كان كفيلا بتحقيق رفعة بلادنا وعزتها، ولا تعرف أنت إلى أين تسير. ومازلت تخاطب الناس عن مجيء الإنقاذ كأنما أتيتم البارحة، وتقدم الوعود والآمال بإصلاح الحال وكأنما الحال أعوج من غيرك. الم تعي بعد إن السودان لم يعد يعاني من غيرك بعد أن حكمته أكثر من عشرين عاما لم تبقي فيها على شيء فعله غيرك من قبل، ولا أظنك تريد أن تترك لمن بعدك من معين بعد أن أعملت معاولك على كل شيء، وصرت حتى إلى ضمائر الناس وعقولهم فلم يعودوا يستهجنون فساد حكامهم، أو يطالبوا بحقوقهم، أو تصيبهم الغيرة على المال العام أو ينهضوا للمصلحة العامة،.لم نرى سلاما شاملا وأنت تحكم: ما انتهت حرب حتى أردت أخرى. ولم تجعل للناس أن يختاروا في أمرهم فما أقيمت انتخابات في هذه البلاد إلا وزورتها، والغريب أن تقف في مسجد بـٌني من مال السحت مطالبا بالقبض على عبد العزيز آدم الحلو لأنه وقف ضد تزوير انتخابات جنوب كردفان، وأي قراءة لأرقام هذه الانتخابات توضح فوزه بها، إلا لمن أرادها فهلوة واستخفاف بعقول الناس ومصائرهم وحيواتهم، ولم تبقي حتى على السودان ففيما بقاؤك! فيما بقاؤك؟



Source: www.tahalof.info


رأي ـ تعليق  



هل قرأت المقال اعلاه؟   
اكتب    
 
 
 
 
 
  
site created & hosted by