# # # #
   
 
 
[ 25.05.2011 ]
الجنرال المحترف: العميد الركن الطيب حامد مصطفي ـ عبد العزيز خالد العمدة




بسم الله الرحمن الرحيم
الجنرال المحترف
العميد الركن الطيب حامد مصطفي
مدخل:
تعتبر العادات والتقاليد العسكرية في القوات المسلحة السودانية قانونا مهما ربما معظمه غير مكتوب من بينها ان يكون تاريخ الدخول للكلية الحربية هو نفسه رقم الدفعة ,فالدفعة التاسعة عشر(19) دخلت الكلية الحربية في 19/ يناير 1966م وينطبق ذلك علي بقية الدفع وان كان الامر يبدو بسيطا الا انه مدهشا والمتمعن فيه يري جانبا  توثيقياً وفنياً وابداعياً .
إنتمي العميد الركن  الطيب حامد مصطفى إلى الدفعة التاسعة عشر  التى تعتبر من الدفع الكيبرة عدداً قياساً مع ذاك الزمان فقد كان العدد الكلى إثنين وثمانين طالباً حربياً بمن فيهم ثمانية طيارين (8) وثلاثة فنيين (3) وستة صوماليين (6) وتخرج منهم اربعة وستون ضابط مشاة بتاريخ 16/نوفمبر 1967م، وبعد حين بدأ العدد فى التناقص بفضل اللياقة الطبية والإستشهاد والموت وصراع العسكر والسياسة وطرد الرفاق للرفاق  من الخدمة العسكرية مع أن الرقم (19) فيه الرحمة والمحبة ويرتبط بالإسلام  والمسيحية فعبارة (بسم الله الرحمن الرحيم) التى تبدا بها السور في القران الكريم (19) حرفا،ً كما أن السورة رقم (19) هي سورة مريم أم سيدنا عيسى رسول المحبة .
المولد والنشاة:
ولد الطيب حامد في 16 يناير 1946 في مدينة أم روابة  وتوفي  في مدينة الجبيل يوم السبت الساعة السادسة مساءً بتوقيت المملكة العربية السعودية  بتاريخ 29 يناير 2011م ودفن فيها وعمره في الحياة خمسة وستون عاماً وثلاثة عشر يوما(65).
ونلاحظ أن شهر يناير الذى ولد فيه بأم روابة والذي دخل فيه الكلية الحربية دفن فيه بالجبيل ......أى صدفة هذه ....جل جلاله.
 والده حامد مصطفي عبد السلام من مواليد أم روابة وعمل بالتدريس وتنقل فى مدن السودان المختلفة لذلك درس أكبر أبنائه الطيب في مدارس متعددة  فالأولية  بام كدادة ثم رشاد – الوسطى بالبرسى بالقرب من ود الحداد واكمل الوسطى بأم روابة  - والثانوى بمدرسة الأحفاد بأم درمان، وكان يسكن مع عمه عبد السلام بحى مكى – القلعة. .دخل الطيب المعهد الفنى(جامعة السودان الآن) كلية المساحة ومكث فيها عام قبل أن يتقدم للإلتحاق بالكلية الحربية وإختياره الجيش كمهنة كان رغبة منه لوحده، ولم تكن رغبة أهله. مهنة والده كمعلم  ودراسة الطيب في مدن سودانية متعدددة أثرت مع عوامل أخرى على شخصيته كما سنرى .
الطيب تجرى في عروقه جينات التنوع السودانية والتى أنتجت منه شخصية متوازنة ومنفتحة ومعتدلة فهو ينتمي إلى قبيلة الجموعية والطريقة السمانية التى ينتمى إليها أهله لآبيه فالطيب يمتد اصله إلى الجزيرة سلانج أحفاد الشيخ أحمد الطيب السمانى (أم مرجى).فى حين أن والدته الخالة فاطمة أحمد عمر التجانى تنتمى إلى قبيلة الشايقية والطريقة التجانية وللأسرة بأم روابة زاوية بشارع السوق، وإمام الجامع كان جده أحمد عمر التجانى وظل يتناوب على الجامع أخوال الطيب.
وقد حكت لى والدته الخالة فاطمة، أن جده لإبيه كان يقربه ويصطحبه معه  فى الإجازات في موسم الحصاد والعمل فى والزريبة، فجده كانت مهنته ملاحظ أسواق لذا فان الطيب منذ صغره كانت علاقته مع كبارأسرته يخدمهم ويوفر طلباتهم ويؤدى مراسيلهم، لذالك كانوا يحبونه ويعزونه فأكتسب منهم أدب إحترام الكبار وخدمة الصغار والهمس فى الحديث وعدم رفع الصوت لصديق أو عدو، وإمتصاص الغضب .وفى الحديث الشريف: قال رجل؛ يا نبى الله، دلنى على عمل يدخلنى الجنة قال: لا تغضب ولك الجنة.

من الطرائف أن أحد الجنود تقدم طالبا إجازته السنوية وفى محاولة لزيادة فترتها حاول الإحتيال فقال للملازم الطيب أن قريته تبعد من أم روابة مسافة يومين بالحمار. وساله الطيب: إنت من وين؟ فرد من (أم حيمة) فقال ملازم الطيب دى أنا كنت بمشيها مع جدى لما كنت صغير وتبعد من أم روابة مسافة ساعتين .
رأيت الطيب حامد أثناء المعاينات لدخول الكلية الحربية لكنى لم أتعرف عليه بشكل جيد إلا بعد بداية التدريبات ويبدو أن البيئة الأسرية كان لها تأثير عميق عليه، فمنذ أن تعارفنا، رأيت فيه الهدوء والرزانة وحكمة أهله الجموعية، وحنية أمه الشايقية، ...وإحترام الآخر حتى أنه من القلة من الدفعة التاسعة عشر التى لها علاقة صداقة حميمة بالجميع لا ينافسه فى هذا المضمار إلا صديقه المرحوم العميد الركن محمد عمر إدريس، وقد أثرت في الطيب وفاة صديقه الذى سبقه إلى العبور إلى الشاطئ الآخر بتاريخ (05 مارس 2008) برغم أن المرض الذى صارعه صديقه محمد عمر كان تمهيداً لقبول القدر في حين أن الطيب خطفه الموت دون إنذار مبكر فكانت الفاجعة.... فأنتقل من الحياة بهدوء كما الهدوء  الذى لازم حياته .
عروس النيم والمياه العذبة:
ولد الجنرال الطيب ونشا في مدينة أم روابة وتعتبر من المدن الحديثة في السودان (1912) ونشأتها كانت بعد مرور خط السكة حديد الذى يربط الخرطوم أم روابة الأبيض – والخرطوم أم روابة نيالا – والخرطوم أم روابة واو .وهى منطقة زراعية مليئة بالخضرة والجمال وتسمى عروس النيم وتعتبر من أكبر مناطق إنتاج الصمغ العربى والسمسم والفول السودانى والكركدى فضلا عن الثروة الحيوانية كما أنها منطقة تمازج للقبائل العربية المختلفة حيث نزحت من جميع أنحاء السودان جالبين معهم ثقافتهم المتنوعة التى إنصهرت فيما بينها  فأنتجت ثقافة أثرت الحياة الإجتماعية في أم روابة والمنطقة التى حولها، كما تعتبر مياه أم روابة من أجود أنواع المياه العذبة فى السودان حتى أن حاكم عام السودان الانجليزى كانت تجلب له المياه عن طريق صهاريج السكة حديد إلى الخرطوم وله بئر خاصة أطلق عليها إسمه (برتملو)  هذه البيئة الأم روابية المدهشة أنتجت الجنرال المحترف وأثرت فيه.
لإعداد هذا البحث جلست مع والدته الخالة فاطمة والتى أعرفها منذ أن كنت طالبا حربيا حيث سافرت الى الطيب بصحبة صديقنا المشترك هاشم مبارك هاشم فى نهائيات العام 1966م وتوطدت الصلة باسرة الطيب وتوجت بزواج إبن خالتى محمد العراوى من خالة الطيب محاسن أحمد عمر.
 ويلاحظ  إن القيم والصفات التى ورثها الطيب منذ صغره ظلت تلازمه خلال حياته إلى وفاته وتقول الخالة فاطمة أن إبنها كان يتجنب المشاكل ويبتعد عنها ولا يدخل فيها فكان مرضى عنه من أهل أمه وأهل أبيه بل والجيران حتي البعيدين عن منزلهم (زول رضى) وتقول أنه كان نظيف اليد واللسان والملبس- دائما هدومه نظيفة حتى أن المعلمين كانوا يحبونه لأخلاقه ومظهره ومستواه التعليمي- ودائماً تسمع معلم ينادى، تعال يا الطيب من دون أقرانه التلاميذ.
كان طيبا منذ مولده فقد إختار له جده هذا الأسم لأنه حلم بأن الشيخ الطيب (جا ونزل قدام) ويبدو أن أسماء الأولاد أشقاء الطيب كان يختارها الجد: السمانى- مبارك- عبد القادر – مصطفي- إضافة إلى البنات شادية ونادية.
المسئولية والوفاء عند الطيب:
تزوج الطيب من بنت خالته فاطمة بدوى عبد الماجد  الداروتى في 1975م وتوفيت أثناء الولادة فى أم روابة 1978 حين ما كان الطيب في دورة إستطلاع فى الولايات المتحدة الأمريكية، والعجيب أن خالته أم زوجته (زينب أحمد عمر) هى الاخرى سبق ان توفيت اثناء الولادة.... كثيرة ه امتحانات الحياة والقدر.
ثم تزوج الطيب فى 3 مارس 1981 من السيدة الفاضلة نعمت محمود أحمد عطية وهى من مواليد أم درمان وتنتمى إلى أسرتى الربعة وعطية المعروفتين. رأها الطيب بحكم الجوار حين كان يسكن في منزل حكومى بالخرطوم بحرى حلة الأملاك بجوار سينما حلفاية – وهي دفعة شقيقته شادية في الجامعة وصديقتها وصديقة خالته محاسن،  وله من الأبناء أحمد ومصطفي وناصر ومن البنات هبة خريجة الإقتصاد الزراعى جامعة السودان وآخر العنقود هديل بمدرسة أسماء عبد الرحيم الثانوية . التقيت كثيراً إبنه مصطفي خريج الجيلوجيا جامعة النيلين ولاحظت إهتمامه بالأسرة وجذورها وتاريخها وإرتباطاتها وهى كانت إحدى إهتمامات والده خلاف كثير من شباب اليوم، الذين ربما لايعرفون شيئاً عن جذورهم فهى ليست من إهتمامتهم .
أما ناصر الطالب الحربى بجامعة كررى كلية الهندسة فهو أكثرهم شبهاً بالطيب، حتى أن الخالة فاطمة تقول، أن ناصر صورة طبق الأصل من والده،  وذهب فى إتجاه مهنتة الكاكى والعسكر. سالت يوماً إبنته الجميلة هبة إنت أبوكى أداك شنو؟ فردت أول شئ الشبه (هى فعلا تشبة والدها) ثم أضافت: المسؤلية (بقول لينا داير تعمل حاجة تعملها لكن تكون مسؤل منها ومن نتائجها).
تميز الجنرال الطيب حامد بالوفاء لأسرته وأهله يواصلهم ،يتفقدهم (يهاديهم) يرسل الإحتياجات اليومية مثل السكر والزيت.... إلخ فى زمن ربما لم يكن الضيق والعسر كما نراه اليوم.
أذكر حينما كنا نزوره فى منزله الحكومى ببحرى كنا نرى كيف أن المسؤلية التى ورثها من بيئته الأسرية متمكنه فيه وربما متمكنا فيها .فكنا نرى أشقاءه وهو يحتضنهم بالمنزل بل ويتابع تعليمهم، فأرسل شقيقه مبارك لدراسة الجيولوجيا فى الأسكندرية بمصر، وشقيقته نادية لدراسة الدعوة والإعلام فى جامعة عين شمس، وشقيقته شادية التى درست بالسودان، بل ورأينا وتعرفنا علي إمتدادات الأسرة من أولاد وبنات الخالات والأعمام وأهل أم روابة.
إضافة إلى المسئولية والوفاء فالطيب كان (حنينا) والحنية مرتبطة بالانسانية فهى فيه فطرة. ولم تقتصر الحنية تجاه اسرته بل ممتدة إلى رفاقه وأصدقائه والبشر الذى يلتقيه وإنتقلت هذه الحنية إلى أسرته الصغيرة كجينات وراثية وكما يقول أهل الطيب أن بناته وأولاده (حنينين) زي أبوهم.....وبذا ورثت الأسرة إحدى أهم صفاته، المسؤلية والوفاء والحنية. والمسؤلية عنده تمتد الى مهنته كما سنرى .
زارنى الجنرال الطيب يوماً فى مكتبى بأمدرمان الدفاع الجوى وأخطرنى أنه إشترى أمس قطعة أرض فى ود البخيت شمال أم درمان وطلب منى شراء القطعة التى تجاوره .فقلت له أنا: البودينى ود البخيت شنو؟ فرد: يا زول أحسن ليك الحته دى عندها مستقبل ... قلت إنت عارف يالطيب نحن ناس الحلفاية ديل بنحب نسكن جنب أهلنا .... إنتو ناس أم روابة ديل ما عندكم فرق المهم قطعة فى العاصمة.... لكن الطيب ببصيرته ذهب شمالا بالقرب من جذوره الجموعية، وتطورت المنطقة وأصبحت قطعة الأرض التى اشتراها المنزل الذى تسكن فيه الأسرة اليوم بمحلية كررى مدينة المنارة بالرقم (35) مربع (2).الآن لا يفصل حلفاية الملوك عن ود البخيت إلا كبرى الحلفاية الجديد.
 فهوس الأسماء الذى ضرب السودان بعد إنقلاب الإنقاذ 30 يونيو 1989م، حصر حله ود البخيت فى مكان صغير، وتحول جزء منها إلى إسم المنارة بعد التخطيط الذى حدث فيها والمنطقة أصلاً كانت مكونة من ثلاثة حلات مسماه بأسماء شيوخها شيخ البخيت – وبلال - وإدريس .حتي حلفاية الملوك عاصمة السودان الثانية فى فترة الحكم السنارى هجم على أراضيها البعض بدعوى التخطيط، وضعوا لافته كبيرة كتبوا عليها مدينة الرحمانية، وشركة ثانية اطلقت على جزء آخر لؤلؤة الحلفاية .. وفي السياق نلحظ سعدنة وخلجنة الأسماء (من السعودية والخليج) الطائف – الرياض – شارع الستين - المزدلفة ...الخ. وهوس الأسماء ليس محصوراً على العاصمة وإنما إمتد إلى الأقاليم وكأن السودان لايوجد من بينه الرجال والنساء العظماء الذين يستحقون تخليدهم . وكأن التاريخ: بدأ يوم إستولى الانقاذيون على السلطة والثروة والأسماء وامتلكوا الارض واستعبدو البشر . وسيأتى اليوم الذى تعود فيه كثير من هذه الأسماء إلى أهلها لربط الأجيال القادمة بالتاريخ والوطن السودان .    


 
  الجنرال المحترف
منذ أن أكملت الدفعة التاسعة عشر السنة الأولى في الكلية الحربية كان الطالب الحربي الطيب حامد يبشر بمستقبل جنرال محترف، فقد كنا حوالى الثلاثين طالبا  في البلتون الأول الذى يرتدى الفنلة الحمراء فيما كانت الصفراء للبلتون الثانى والخضراء للثالث وبلغة ذلك الزمان برنجى للأول وكنجى للثانى وثلاثجى للثالث، كنا مجموعة فى البرنجى أو الحريقه كما كنا نسميه:  منهم أحمد عبد الله دفع الله أول شهداء (البلتون الأول وثاني شهداء الدفعة التاسعة عشر بعد الطالب الحربى طيار محمد محمود مراد) :- جوزيف فلمون مجوك – هاشم مبارك هاشم – أحمد وداعة الله – البشير سعيد أبو شعر – مختار زين العابدين – إسحق إيدام – إبراهيم نايل إيدام - عثمان أحمد حسن – الطيب حامد...إلخ ومن الطيارين علي البدرى – الرشيد محجوب - ومن الصوماليين محمد عبدى - أبشر عسكر. وحين بدأت السنة الثانية وأصبحت الدفعة التاسعة عشر (سناير)، تخرجت الدفعة  الثامنة عشر من الكلية ودخلت الدفعة العشرين (كمستجدين)...حينها إختاره المعلمون كأحد المبرزين وترقى إلى رتبة عريف وأصبح قائداً لى في البلتون الأول . وتمر السنوات فقررت فى عام 1980 الإمتحان لدخول كلية القادة والأركان وكان المقدم الركن وقتها الطيب حامد معلمى وأستاذى فى الكلية، وكعادته سبقنى إلى إمتحان دخول كلية القادة والأركان في السودان، فكان من المبرزين في نتيجة الدخول، فبعث إلى دراسة الماجستير فى العلوم العسكرية بماليزيا 28(/11/1979م – 28/11/1980م).حينما كانت ماليزيا تستقبل الدارسين المميزين وليس أموال الفاسدين فى بنوكها ....وبعد عودته من ماليزيا نقل معلما في كلية القادة والأركان
 ( 1980م -1985م). والتعليم والتدريب احدى اهم مكونات الضابط المحترف ...فالضابط المهنى المحترف لابد أن يكون مميزاً فى التدريب (التعليم) ومميزا فى قيادة الرجال وبنفس المستوى فى أعمال الضابط الركن – بمعنى أن فترة خدمة الضابط العسكرية تكون موزعة وفى نفس الوقت مميزة على الثلاثى التعليم – قيادة الرجال- واعمال الضابط الركن. وصديقنا الجنرال الطيب تنقل فى وحدات الجيش قائدا للرجال – القيادة الوسطى الابيض 15/11/1967- 1970م - غرب الاسوائية مريدى - قوات حرس الحدود التي نقل اليها وهي تحت التكوين ويعتبر من المؤسسين لهذا السلاح، فقد تم اختياره بمجرد عودته من الاتحاد السوفيتى التي حضر فيه دورة استطلاع وهو ضابط صغير برتبة م/اول سبتمبر (1970م – مارس 1971م). واستمر يعمل بحرس الحدود فى الفترة (1971-1975م).

بعد قيام إنقلاب الإنقاذ (الجبهة الإسلامية القومية) نقل الطيب قائد ثانى قوات الوطن الواحد (1989م-1991م بجوبا عاصمة الاستوائية وظل قائداً فعلياً لفترات طويلة، وفيها قدم كل خبراته التخطيطية والعملياتية، وشهدت هذه الفترة إحدى أعظم إنجازاته، وبرز فنه وعلمه في إعداد وإستخدام القوات، وهو الذى و ضع خطة الدفاع عن مدينة جوبا، ونجح في إمتصاص هجمات الحركة الشعبية لتحرير السودان، والإنتقال إلى العمليات الهجومية، ويرى معظم العسكرين السودانيين أن الخطة الدفاعية التى وضعها الجنرال الطيب مثالية ومبتكرة وخلاقة وترتبط بالواقع علي الأرض وتسخير الإمكانات المتاحة لخدمة العمليات.
نتيجة لهذا الأداء المميز لجنرال محترف تم إختياره في عام (1991) ملحقاً عسكرياً فى السفارة السودانية بواشنطون، وعاد من جوبا إلى الخرطوم، وبدأ فى تجهيز نفسه إلى السفر، ولكن قبل سفره بأيام كان الجزارون من ضباط الإنقاذ فى القيادة العامة يسنون مطرقتهم لفصله تعسفيا فأحيل إلى التقاعد دون تحقيق في 8 سبتمبر 1991م. بدعوى أن اسمه ورد عندهم فى حركة الجنرال محمد عثمان حليفى (28 أغسطس 1991م) هكذا أشاعوا: ولكن الأسباب الأخرى المتداولة حول هذا الفصل ظلت بين أنهم يفضلون ضابطا ينتمى إليهم يذهب إلى واشنطون وبين ذبح الضباط المحترفين للمهنة والتخلص منهم... والجنرال الطيب بثقافته العسكرية والعامة العالية، لم يكن من جماعة السياسة، ولا أذكر يوما طيلة صداقتى له الممتدة من الكلية الحربية إلى وفاته أن سمعته يتحدث يوماً فى السياسة. والجزارون يعلمون ذلك تماما وكان فصله يوما حزينا فى تاريخ القوات المسلحة فقد أصاب الإحباط والغضب أصدقاؤه ،ورفاقه ، وضباطه ، وجنوده، وأهله....لكني أعتقد أن إنقلاب الإنقاذ بطبعه معادى للإحتراف ومناقض لأخلاقيات المهنة .... فأخلاقيات مهنة العسكر فى جزئيتها الأولى أن تمنح جهدك الفكرى والجسمانى للمهنة ،وفي جزئيتها الثانية أن تكون مبدعاً وخلاقاً ومبتكراً، فى جزئيتها الثالثة أن تكون وطنياً لا ترفع بندقيتك ضد شعبك، ويمكن الجزم بأن أخلاقيات مهنة العسكر تنطبق تماماً مع الجنرال الطيب حامد مصطفى. كما يمكن الجزم أيضا أن عدم الإلتزام الصارم بأخلاقيات المهنة يتناقض مع الإحتراف .
لذلك نفهم فى هذا السياق الأعداد الكبيرة من الضباط المحترفين الذين تم فصلهم وتشريدهم وكثير من العسكريين والمدنيين الباحثين والمحللين يطلقون على تلك الفترة (التمكين والتامين) والتخوف من الإنقلابات المضادة. وصياغة جيش جديد وإنشاء البديل من المليشيات الموازية كالدفاع الشعبى، والشرطة الشعبية ..الخ. ولكن ظل الجوهر السببى لمجازر التشريد والفصل لإنقلاب الجبهة الإسلامية فى 30 يونيو 1989م  أنه معادى بطبعه للاحتراف ومناقض لأخلاقيات المهنة.
إضافة للتعليم في كلية القادة والأركان وقيادة الرجال، عمل الجنرال الطيب فى القيادة العامة للقوات المسلحة فى مواقع مهمة، عادة يختار لها نوعية مميزة، رغم أننا شاهدنا بعض القادة يختارون بعض المتسلقين أو أصحاب الولاء فى العهد الإنقاذى، ولكن صديقنا الجنرال وصلها بإتقانه وإحترافه لمهنته، فعين فى عام (1976- 1979م) مديراً لمكتب نائب رئيس هيئة الاركان إمداد، وهو برتبة الرائد - ثم مديراً لمكتب القائد العام (1985-1987) هو برتبة العقيد الركن . إلى أن تقلد مهام نائب مدير فرع التنظيم (1987-1989م).
وتشير السيرة الذاتية للجنرال الطيب أن تجربته وخبرته وعلمه وثقافته العامة العميقة نتاجا لبيئته وتكوينه الشخصى والنفسى وعلمه وإضطلاعه. أما ثقافته العسكرية فقد أثرت فيها الدورات العسكرية التى حضرها فأمتلك ثقافة عسكرية  متنوعة، ونلحظ تعدد وتنوع المدارس العسكرية التى بعث إليها ... بدءً بدورة الإستطلاع فى الإتحاد السوفيتى سبتمبر( 1970- مارس1971م)؛ ثم قادة سرايا حدود جمهورية مصر العربية نوفبر( 1975م إلى مارس 1976م)؛ والدولتان تتبعان المدرسة الشرقية، ثم تشرب الطيب أيضاً بالمدرسة الغربية . فحضر دورة متقدمة بالولايات المتحدة الأمريكية يناير( 1978م –يوليو 1978م).وماجستير العلوم العسكرية من ماليزيا (1978م – 1980م) فقد كان النظام المتبع فى ذلك الزمان أن يبعث الضباط الحاصلين على نتائج متقدمة لإمتحان الدخول لكلية القادة والأركان إلى خارج السودان مكافأة لهم.
ولا أعتقد أن هذا التأهيل الماجستيرى كان صدفة، ويبدو أنه كان هدفاً وطموحاً للطيب، جهز له نفسه، فقد حضر دورة ضباط أركان أصاغر وهو برتبة صغيرة بكلية القادة والأركان السودانية، حينها كان التدريس باللغة الإنجليزية والمعلمين خليط سودانى إنجليزى قبل أن يتم تعريبها في بداية الثمانيات القرن الماضى ... وكانت الكلية السودانية في توأمة مع كلية سان هيرست البريطانية. ويمكن القول أن الجنرال المحترف حين تقدم لإمتحان كلية القادة والأركان للحصول علي ماجستير العلوم العسكرية كان واثقا من نفسه، معداً لها، لأن قاعدة إنطلاقه كانت كلية الأركان الصغرى. ولم يكتفى الطيب بهذا الرسوخ القيادى والتعليمى وتجويده لمهام الضابط الركن، وإنما إقتحم مجالا مهماً، وهو البحوث، فالجنرال كان باحثاً متمكناً يملك أدوات البحث بحكم إضطلاعه وثقافته، وإتقانه للغة العربية والإنجليزية وبدرجة جيدة الروسية، فكتب كتاباً عن القائد عثمان دقنة من ثلاثة فصول، تحدث عن معاركه وأسلوب قتاله، وحروب الإستنزاف التى إبتدعها، وإنسحابه، وإختتم بحثه بتحليل شخصيته، كما كتب الطيب بحثاً عن فتح الخرطوم، وبحثا ثالثاً عن معركة كررى . وأعتقد أن الجنرال المحترف كتب كثيراً من البحوث ولكنى لم أحصل عليها جميعها . وهذه دعوة منى للناشرين عامة، وفرع البحوث خاصة، لطبعها في كتيبات ليس للتوثيق فقط، وإنما لوضعها ضمن المراجع الأساسية فى الكلية الحربية – وكلية القادة والأركان - والأكاديمية العسكرية.


حياته بعد الفصل التعسفى:
عمل الجنرال بعد فصله في مهنة لا يعرفها، فدخل سوق أم درمان أو(الله أكبر) فى ( 20/6/1993م) شريكاً لصديقه المحترف المفصول اللواء الركن محمد حسن سليمان فاستأجرا دكاناً بزقاق العرديبة، ثم شارك أحد جيرانه في الحى في دكان في مدينة الثورة بام درمان، وتركزت تجارته المحدودة في شراء البضائع من المصانع وتوزيعها على بعض الدكاكين كالزيت والجبنة والسمنة التى يجلبها من كردفان .

قرر الطيب البحث عن عمل خارج الوطن بعد أن ضاق به الحال في بلده، فسافر إلى السعودية وعمل كموظف علاقات عامة (1998-2011) في مدينة الجبيل، وليدفن فيها بعيداً عن السودان وجذور صرته في مدينة أم روابة ...أو منزل أسرته فى ود البخيت المنارة. وتحكى الخالة فاطمة أن آخر محادثة بينها والطيب كانت قبل ثلاثة أيام من وفاته: (ارجع خلاص يا الطيب) الحمد لله حضرت تخريج هبة ومصطفي – وانا طوالي بدعو ليك وعافية منك وراضية عنك – فيرد الطيب: خلاص يا والدة دى آخر فترة لى وأرجع نهائى للسودان.
حينما تقدم الطيب للمعاينات لدخول الكلية الحربية، كانت والدته تدعو وتقول (بركت الله يطردوه من المعاينات أنا ما دايرة ليهو الجيش، لكن لو دخل بالسلامة وطلع بالسلامة بسوي الكرامة) وأوفت الخالة فاطمة بوعدها وذبحت عجل يوم دخوله الكلية الحربية – وذبحت خروفا يوم ذبح جزارو الإنقاذ الجنرال الطيب من المهنة، وتذكر الخالة أن (المطرة) نزلت يوم ذبحها العجل والخروف وترجع ذلك لأهل الطيب  من جدوده السمانية والتجانية، وفي السياق حينما كان الطيب قائداً للإستوائية (جوبا) وتم إختياره ملحقا عسكريا بواشنطون وبدأت الحامية العسكرية في إحتفالات الوداع لقائدها، قال له أحد الضباط الجنوبين برتبة العميد وكان قائداً لكتيبة توريت يا جنرال:- ( الكجور بتاعنا قال ما تسافر الخرطوم الناس ديل بفصلوك).وحكي لى صديقه وإبن دفعته البشير سعيد أبو شعر أن الطيب إتصل به قبل ثلاثة أيام من وفاته (هي نفس الفترة التى إتصل بها بوالدته) وأخبره بأن  إبن خاله محمد على أحمد عمر توفى وهو صغير السن 25 عاماً، وأن الأسرة سوف تذهب لأم روابة حيث العزاء، وتعود بعد أيام. وفى يوم الجمعة 28يناير 2011م ذهبت مجموعة تمثل الدفعة التاسعة عشر لتقديم العزاء لأسرته الصغيرة في ود البشير المنارة .. إبراهيم نايل إيدام – بابكر طيفور- عبد المتعال إبراهيم - محمد عثمان الازهرى -بالإضافة للبشير سعيد ومن منزله حاولوا الاتصال به تلفونياً في السعودية ... وفى اليوم الثانى، السبت 29يناير 2011 الساعة السادسة مساء، أثناء صلاة المغرب كان رحيل الجنرال المحترف إلى الشاطئ الآخر .
 كثيرون هم الجنرالات المحترفون الذين عملت فيهم مقصلة الإنقاذ المعادية للإحتراف المناقضة للمهنة فكانت محنة البلاد والجيش قبل أن تكون محنة الجنرالات والأسر- فالطغاة لايستوردون ضحاياهم، والجنرال المحترف كان مؤهلاً ليصل إلى قيادة الجيش السودانى، بل ربما كان أكثر الضباط في جيله محتملا لهذا المنصب الرفيع.
الخلاص بالجسد:
ما بين أهله السمانية والتجانية وكجور العميد الجنوبى، ومقصلة الإنقاذ، رحل الجنرال المحترف الباحث الطيب حامد مصطفي في الساعة السادسة مساء بتوقيت السعودية أثناء صلاة المغرب بتاريخ 29/يناير 2011م فخسره السودان وقواته المسلحة .
أثناء كتابة هذا البحث إتصلت بعدد من زملائه وأصدقائه وأسرة الجنرال الطيب لتجميع بعض المعلومات عنه، وساعدنى الكثيرون منهم خاصة أسرته - ومن ضمن الأسئلة التي كنت أسألها لرفاقه: ماهي مميزاته وصفاته؟ أذكر أن كنا يوماً مجموعة من دفعته – محمد البشرى سالم – أحمد محمود الباشا – أحمد وداعة الله – محمد الحسن سليمان - وأنقل من مدونتى ما ذكروه إضافة إلى ما ذكره من إتصلت بهم تلفونياً: هادىء - وقليل الكلام - أقرب إلى الصمت والإستماع إلى الأخرين – ودود – مرتب ومنظم - دقيق جداً – خطه جميل - رجل صدوق – خلوق - صادق مع الناس و نفسه - يمتلك خاصية الوفاء – لا يتحدث أبداً عن ذاته - لا يحب الأضواء – يتفادى المشاكل - لا يحب أن يخدش حياء الناس ولا يجرحهم – حكيم- متأثر بالمجتمع الكردفانى – مثقف عسكرى – كاتب وباحث – وموثق - له مؤلفات فى التاريخ العسكرى – حاسم ويتخذ القرار.
 ومن مدونتى ايضا أنقل إجابة لسؤال طرحته لإبنته هبه وإبنه مصطفى:(نحن كنا أصدقاء أكثر من علاقة الجنى، والوالد علمنا المسؤلية ؛ أى حاجة داير تعملها تكلم ناس البيت تعملها وتتحمل مسؤليتها – يراجع معنا، ويقرأ دروسنا حتي الجامعة، ودروس تخرجنا - هادئ شديد - لا يغضب – إجتماعى ومحبوب - كان يشجعنا على الإرتباط بالأهل وزيارتهم - يعامل أولاد أهله زى أولاده لا يفرق بينا وبينهم – الإلتزام بالمواعيد - لم يحدث أن ضربنا – كان يكلمنا عن الغلط - وأحيانا نتمنى لو ضربنا كان أخف - حينما تقدم أخونا ناصرللإلتحاق بكلية كررى إعترضت الأسرة فقد كان في ذهنها تجربة الوالد - الوحيد الذي لم يعترض الطيب – تعلمنا منه لبس الأحذية وليس الشبط (فالطيب كان يلبس الاحذية ولا يرتدى الشبط أبداً).   
عبر الجنرال الطيب حامد مصطفي ومعه اوسمته ونياشينه مايو - النصر – الصمود – الوحدة - الخدمة الطويلة الممتازة - الانجاز... ورقم البطاقة(1381). وترك اسرة صغيرة راقية وجميلة وحنينة مكونة من زوجته الفاضلة نعمت .. وأبنائه احمد ، هبه، مصطفى، ناصر، وهديل.

عبد العزيز خالد العمدة
حلفاية الملوك
16 مايو 2011م



Source: www.tahalof.info


رأي ـ تعليق  



الجنرال المحترف: العميد الركن الطيب حامد مصطفي ـ عبد العزيز خالد العمدة

شكرا جزيلا الجنرال عبدالعزيز خالد انا اعرف الطيب حامد وصديق لشقيقه الاصغر مصطفي بل والاسره باكملها وانا كاد اكون جزء منها رحمة الله عليه كان اذا عاد من ارض المهجر يخصني بزيارة لتفقد احاولي وكاني درست معه العسكريه رحمه الله الطيب وجزاك الله عنا واهله ولك الصحة والعافيه يا اخ عبدجالعزيز
ازهري مكي اسماعيل احمد


هل قرأت المقال اعلاه؟   
اكتب    
 
 
 
 
 
  
site created & hosted by