# # # #
   
 
 
[ 25.03.2011 ]
حينما يختفي السرد الحكي: قراءة في ذكريات وصور الأستاذ مصطفى عبد العال عبد الدافع ـ عبد العزيز خالد العمدة




بسم الله الرحمن الرحيم

حينما يختفي السرد الحكي
قراءة في ذكريات وصور الأستاذ
مصطفى عبد العال عبد الدافع

مدخل:

أبدأ حديثي بأول حفل تأبين أقيم في السودان عام 1919م كعرفان وتقدير ووفاء للذين يتوفاهم الله وكانوا قدموا خلال حياتهم عملاً مفيداً لمجتمعهم في أي من مجالات الإنسانية وليس بالضرورة أن يكونوا من صفوة القوم بل أن يكون أثرهم وتأثيرهم مميز وإلتصاقهم بالناس كبير وعميق.

ففي 3 فبراير 1919م، توفي في يوم واحد بل وساعة واحدة علمين عالمين هما الشيخ محمد عمر البناء مفتش المحاكم الشرعية، والأستاذ عبد المجيد بك إبراهيم ناظر كلية القضاء الشرعي، والمعلمين وهو مصري الجنسية، ولم يقتصر أثرهما في الدين فقط بل الأدب والثقافة أيضاً. وقد أقيم لهما أول حفل تأبين في السودان بمدرسة الخرطوم الإبتدائية ربما تكون في موقع برج البركة حالياً. وبالتالي تعتبر حفلات التأبين حديثة عهد بالسودان .

في يوم الخميس 19 نوفمبر 2009م نقيم بحلفاية الملوك حفل تأبين للأستاذ الصديق مصطفى عبد العال أي بعد (90) تسعين عاماً من إقامة أول حفل تأبين بالسودان.. تأكيداً لإستمرار هذا السلوك الإجتماعي الرائع وقيمته العظيمة.. فشكراً للجنة التي أشرفت على هذا الإحتفاء التأبيني.

كنت خارج الوطن حين توفي أستاذي مصطفى بقاهرة المعز فنعيته في بعض الصحف وقلت لقد انكسر مرق من مروق الحلفايا، ومساهمتي في هذه المناسبة ستكون حول كتابيه (ذكريات سوداني في اليمن) و(صور ونماذج بشرية). ونأمل أن تتابع لجنة التأبين وبمثابرة طباعة كتابيه: قصص أطفال وعاشق الفقر.

الذكريات والصور:

صدر كتاب (ذكريات سوداني في اليمن) 76 صفحة قبل كتاب (صور ونماذج بشرية) 49 صفحة، بالرغم من أن الفترة التي سجلت فيها الذكريات كانت بين العامين (1981م – 1986م) وهي الفترة التي انتدب فيها الأستاذ مصطفى إلى دولة اليمن كموجه تربوي. بينما (صور ونماذج بشرية) غطت الفترة من العام 1957م حين نقل إلى قرية ود رملي مدرساً وإلى الستينات من القرن الماضي حين عاد إليها في العام 1963م ناظراً. ومن الطرائف وبعد النظر عند أستاذي انه حين وصل أول مرة لود رملي (1957م) حضر زواج جماعي لعدد خمسين زيجة فقال لهم سنة 1963م المدرسة لابد تكون مذدوجة، وهذا ما حدث وهو الذي نفذ مشروع المدرسة المذدوجة.. وقد يكون وراء طباعة الذكريات أولاً قبل الصور أسباب مختلفة، ولكني أضيف إليها تأثر الأستاذ بالصداقات التي أقامها في اليمن وتأثيره العميق على البيئة التي عمل فيها.
وقد صمم غلاف الكتابين الأستاذ الفنان محمد عبد الحكم.
ذكريات سوداني في اليمن

 التقريظ والإهداء:

التقريظ: قدم الكتاب العالم الشاعر الدكتور عبد القادر شيخ إدريس أبو هالة وفي كلمات قلائل تحت العنوان تقريظ صنف إتجاه الكتاب في الآداب الراقية والفنون السامية وأضاف أنه كتاب بحثي. وقال:
(إطلعت على هذه الذخيرة الأدبية الراقية، ذات البحث المستفيض آمل أن تطبع ليعم نفعها للراغبين في الآداب الراقية والفنون السامية).

الإهداء: الذي سطره أستاذ مصطفى للكتاب مؤشر مهم لوطنيته وعمق إرتباطه بالسودان.. بل إن إختيار عنوان الكتاب نفسه يؤكد هذه الوطنية فلم يقل (ذكرياتي في اليمن) بل قال ذكريات سوداني في اليمن. يقول الإهداء:

(إلى كل الطيور المهاجرة، إلى أبنائنا وبناتنا الذين تركوا الوطن وراء ظهورهم وقلوبهم تنزف، إلى كل من وضع الوطن في حدقات العيون، إلى كل من رفع اسم السودان عالياً ومثله خير تمثيل).
وقد قيل إذا أردت أن تعرف وفاء الرجل ودوام عهده فأنظر إلى حنينه إلى أوطانه وتشوقه إلى اخوانه وكثرة بكائه على ما مضى من زمانه.
صور ونماذج بشرية

التصدير والإهداء

قدم للكتاب بروفسور عون الشريف قاسم فيما يقارب الصفحتين تحت العنوان (تصدير) وقد كانت كلماته وتعابيره كالرسم انسجاماً مع موضوع الكتاب وأقطف منه (ولعل من أعظم الناس التصاقاً بالناس المعلمين ولذلك كان تأثيرهم على البيئات التي يعملون بها أشمل وأعظم ويتعدى حجرات الدراسة إلى التأثير على الحراك الإجتماعي والثقافي والإنساني). ثم تحدث البروف عن الأستاذ مصطفى وأشار إلى خمسة ميزات وصفها بأنها منحة إلهية منحها له الله عز وجل:

 أن الله منحه القدرة على إكتشاف معادن الرجال.
 ومنحه التواضع والقدرة على التسامح.
 ومنحه حب الآخرين والتواصل معهم.
 ومنحه أنه من الذين يألفون ويؤلفون.
 ومنحه أنه راضي نفسه على إكتشاف الخير في نفسه وفي نفوس الآخرين.
الإهداء:
أهدى الأستاذ مصطفى كتاب الصور والنماذج البشرية إلى أمه وأبيه بحنان وعطف وما تعلمه منهما وأخفض في إهدائه جناح الذل من الرحمة.

الفكرة والمنهج:

• الكتابان يكملان بعضهما تماماً فبينما كتاب ذكريات اليمن يتحدث عن المجتمع اليمني من خلال المنطقة التي عمل فيها الأستاذ مصطفى، يغوص كتاب الصور والنماذج البشرية في المجتمع السوداني من خلال مجتمع ريفي ود رملي شمال العاصمة الخرطوم.

والكتابان يصنفان ضمن كتب التاريخ الإجتماعي ولكن القارئ أثناء تصفحه للكتابين يتملكه الإحساس بأن ذلك (أدب إجتماعي) صرف وقد سبق الأستاذ كثير من الكتاب والأدباء الذين ذهبوا نفس المنحى كأستاذ الأجيال المرحوم حسن نجيلة وكتابه (ملامح من المجتمع السوداني) ولكن ما يميز أستاذ مصطفى أنه أحد ملوك السرد والحكي الشفاهي، فحين يتحدث إليك تتمنى أن لا يتوقف .. هذه الميزة نفسها التي طبعت كتابات مصطفى السردية الحكي، وكل القصص في الكتابين كانت واقعية من قلب المجتمع وليست من خياله لكنه صورها في شكل أدبي رائع إضافة لما يمتلكه من حس فني وموهبة أكملها بالدراسة في كلية الفنون بجامعة السودان العام 1973م فالأدب له طبيعة مجازية وخيالية ويعتقد الكثيرون أنه يرى ويتجاوز، ولا ينقل ولا يؤكد، ولا ينفي. ولكن كتابات مصطفى تذهب في إتجاه الأحداث المجتمعية الواقعية.

• والمتعة عند قراءة الكتابين تتوافر من خلال تشابك السرد الحكي والموهبة الفنية وإمتلاك القدرة الأدبية شعراً ونثراً. وتمكنه من تأكيد المعنى بترادف الكلمات (توادهم وتعاطفهم وتعاونهم وتراحمهم). وتميز اسلوبه بتسريب متعة الإبتسامة إلى القارئ حتى في القصص الحزاينية.

• والإبداع في الكتابين مجسم من خلال انحياز الأستاذ مصطفى إلى التطور وإلى الجمال وإحترام الإنسان وقيمه وإنسانيته. ونشاهد ذلك في الثمانية شخصيات التي إختارها في الصور والنماذج البشرية .. وتبدأ من ناظر القبيلة، الدرويش الزاهد، ناظر المحطة، متردد السجون، خفير المدرسة، الدش البشري والفتوة، اللص الذبيح، وكانز الذهب والفضة، ومحجر الرويان والنقابة العمالية.

• فالفكرة والموضوع في الكتابين واحدة، كما أن الأستاذ مصطفى اتبع نفس المنهج والأسلوب عند عرضه للمجتمع اليمني والسوداني.. والقارئ يجد نفسه أمام صورة ثالثة تتكون في خياله عند المقارنة بين القصص المتشابهة المتشابكة التي تقع في المجتمعين اليمني والسوداني..
نماذج متشابهة في الصور والذكريات

ناظر القبيلة:

المرحوم سرور محمد رملي شيخ خط الساحل ورئيس المحكمة الريفية للخرطوم بحري كان مركزه ودرملي القرية التي عمل فيها الأستاذ مصطفى وواضح إعجابه بالشيخ سرور فقد إحتوى كتاب الصور والنماذج البشرية على كثير من القصص التي تعكس إدارته لشياخته، وأبرز من خلالها شجاعته وكرمه وعقله المنفذ وبصيرته النافذة وحكمته ودهائه.

روى الأستاذ مصطفى (ص 16) أن الشيخ سرور قد أستضيف يوماً باحدى قرى ريفي الخرطوم شمال أيام الإنتخابات في أوائل الستينات وبينما كان يتحدث للمواطنين عن برنامجه الإنتخابي قام مواطن من نفس القرية وانصب شتماً وتقريعاً في سرور، فقابله الأخير ببرود ونقر على عصاته ورد عليه (الكلب ما بنبزو في بيتو) ولكن الأيام بيننا.. ولم يحبس المواطن أو يسجن ولم يسأل سرور أو يرفت..

• ومن الجانب الآخر فقد أبرز الأستاذ صفات شيوخ اليمن ورؤساء القبائل من خلال القصص التي أوردها في كتابه (ذكريات سوداني في اليمن) والمدهش أنها نفس الصفات عند قبائل السودان: الشجاعة الفذة، الحكمة البالغة، الدهاء، والكرم. وشياخة القبيلة في اليمن ملك يورث وهي وظيفة إدارية حاكمة.

• لكن أهم إختلاف بين القبيلة في السودان واليمن ان الاخيرة في معظم الأحيان تحسم الأمر عن طريق العنف .. بالبندقية والدبابة (مكتوب على لوحتها دبابة خصوصي).. وعند سرور (نموذجاً) عن طريق السلم، الحكمة والدهاء، ونقر العصا.

حارس المدرسة:

• أبرز الأستاذ مصطفى نموذجين لغفير المدرسة التي عمل بها في السودان واليمن. فقد روى تحت عنوان الفراش الثري (ص 57) من الذكريات، أن غفير المدرسة اليمني كان رجلاً ثرياً ولكنه متواضعاً مسكيناً يملك بيتاً جميلاً ومزرعة واسعة وله عقارات وسيارات ...الخ، وإمتهانه لمهنة فراش المدرسة كان لحبه للأطفال وحبه لمجتمع المدرسين، فالمهنة هنا لا ترتبط بالفقر وإنما الحب.

• وفي مدرسة ود رملي كان فراشها العم فضل الله محمد منوفلي وكان فقيراً وإضافة لمهمة نظافة المدرسة كلف بإحضار مرتبات المعلمين أول كل شهر من المجلس الريفي وفي طريق عودته ذات مرة سرقت منه المرتبات في البص (ص 38)، فذهب إلى أحد أثرياء المدينة ورهن أرضاً له ودفع مرتبات المعلمين .. إلا أن خبر ضياع المرتبات وصل همساً إلى مسامع المعلمين فذهب جميعهم إلى الشيخ سرور .. الذي أستدعى العم فضل الله، وهنا يحكي الأستاذ مصطفى تحت عنوان (المعدن النادر) صورة درامية عجيبة تدور بين الأربعة: الناظر، الغفير، المعلمين، والمواطن الذي ارتهنت لديه الأرض. حيث اعترف الفراش ودموعه تنحدر بسرقة المرتبات منه وعليه أن يتحمل نتيجة اهماله. والمواطن يقول أنه لم يكن يقبل رهن الأرض إلا أن عم فضل الله أخبره أنه يحتاج للمال لزواج ابنته. والمعلمون يتنازلون عن مرتباتهم إيماناً بالقدر وتقديراً لمعدن الفراش، والشيخ الحكيم يحسم الأمر بإعادة الأرض لصاحبها الفقير، ويستلم المواطن ماله الذي دفعه مقابل الأرض، والمعلمون يستلمون مرتباتهم وقال (أعجزنا ونحن عصبة أن نغطي هذا المبلغ البسيط !!).

وتستمر الصورة الدرامية المثيرة حين يقسم ناظرالمدرسة الأستاذ مصطفى أن لا يكنس العم فضل الله فصلاً في المدرسة بعد اليوم ووضع جدولاً للنبوتجية لتلاميذ المدرسة ليقوموا بهذه المهمة.

الأم في اليمن والسودان:

•  صور لنا الأستاذ مصطفى الأم بشكل يثير الوجدان تحت عنوان (الجمعة في حجة) فقد حكم على مواطن يمني بالقصاص في جريمة قتل. واتجه الناس إلى ساحة القصاص، وبعد تلاوة حيثيات الحكم إلتفت المسؤول إلى ولي الدم قائلاً:

هل تقبل الدية ؟
ولي الدم: (بانفعال) لا.
المسئول: ودية الحكومة ؟
ولي الدم: لا نقبل .. لا.
المسئول: (يسأل المحكوم عليه) مارأيك ؟
المحكوم عليه: مليون ريال ...

وهنا يتردد ولي الدم .. فصاحت أم القتيل بصوت مبحوح لكنه عالي لا.. لا.. وتم تنفيذ حكم الإعدام بالرصاص، وجاءت سيارة وحملت الجثة .. فإذا بصورة جديدة مثيرة لأم ثانية .. تجري وراء السيارة التي تحمل جثمان ابنها وهي تولول وتنوح وتبكي.

• في صور نماذج بشرية يحكي الأستاذ مصطفى صورة لأم من قرى ريفي الخرطوم شمال تحت عنوان (الحسنة معطت شارب الأسد) ص 16، فقد سجن ابنها في حادثة سرقة وكان يكره الشيخ سرور ويشتمه علناً .. فذهبت الأم إلى الشيخ سرور بود رملي طالبة العفو لإبنها فأحسن معاملتها واكرمها وردها إلى أهلها محملة بكل إحتياجاتها ووعدها بالإفراج عن إبنها صباح الغد وأوفى بعهده... وحين دخل الإبن على أمه .. إستقبلته باكية وقالت (أمشي زور سرور وأطلب العفو منه) فأطاع أمرها في خضوع عجيب ومن بعدها تاب توبة نصوحة وأصبح من خلصاء الشيخ سرور بفضل أمه الحكيمة.

الشعر في الذكريات والصور:

تتعطر أسطر الكتابين الذكريات والصور بالشعر وتلاحظ اختيار الأستاذ مصطفى أبيات الشعر التي تتناسب مع كل قصة تأكيداً لها أو نفياً، وواضح تمكنه وتذوقه وشاعريته إضافة إلى ملكة إستخدام الكلمات والتعابير نثراً ممزوجة بموهبته الفنية وسنختار قصة من الذكريات انتشرت من خلال القصيد .. فقد كان الأستاذ في مهمة تفقدية لمدرسة في قرية (الثلوث) اليمنية يمتطون عربة يابانية متينة هادئة الدوران جميلة حمراء لونها، رافقته وصاحبته في كل جولاته التفقدية وارتبط بها وارتبطت به. وبينما كان على مشارف وادي بني زيد داهمهم سيل مزمجر مرعب وظل الماء يطاردهم فتمكنوا من الخروج تاركين السيارة التي لعب بهاالسيل الجارف لعبة النعش الطائر إلى أن اختفت ووصفها الأستاذ بقوله لقد رأيت الطوفان بعيني. وعلى ضوء خافت من مصباح كتب الأستاذ رسالة حزينة يحكي حاله ويرثى عربته إلى صديقه الأستاذ الفصيح مدير المركز وكلف فراش المدرسة (أحمد) لإيصال الرسالة مع أول سيارة تتحرك صباحاً .. وعندما قرأ الأستاذ الفصيح الرسالة ناولها بتأثر ظاهر للأستاذ الشاعر اليمني حسن عبد الله الشرفي الذي كان يجلس جواره. ورغم أن كتاب الذكريات لم يتضمن الرسالة ربما لم تكن منها نسخة عند طباعة الكتاب .. لكن يبدو أنها كانت قطعة أدبية حزينة ومؤثرة .. ونستنتج ذلك من تأثر الأستاذ الفصيح والشرفي بها .. فكتب الشرفي في نفس اللحظة قصيدة نونية من (18) بيتاً سماها (على كاهل الموج) فانتشرت وسرت في المجتمع اليمني وأقتطف منها بعض الأبيات:

عـصف السـيل بإبنة اليـابان         وطـوى كـبرياءها فـي ثــوان
فرماها بموجــه فيه أدهــى         مــن عــناد البـنزين والنيران
ما درى مصطفى بـها كيــف         ألقت رحلـها فاحـتمت ببر الأمان
غـيرأن الهـوى ذكـره فيـها         زمــاناً مــا كـان مـثل زمان
ما عـرفنا عـيباً يشين إبن عبد        العــال لا في ســر ولا إعـلان
غـير إنـي تخـيلـته هـنا قد         فــر مـثل الـقطا من الطـوفان
عــذره أنـه رأى قــوة الله         تجـلت أمــامـه للــــعيان
يا بن عبد العــال عـــرفتك         قـلباً أبيضاً ينتمـي إلى السودان
قد سلمـتم والحـمد لله بــدءً         وخـتاماً والشـكر لله فـي كل آن

وفعلت الرسالة التي أرسلها الأستاذ مصطفى وقصيدة الأستاذ الشرفي فعلها فأعجب وتأثر بهما الأستاذ هلال الزيدي مدير عام التربية فجاراها بقصيدة جميلة من (13) بيتاً.. أقتطف منها:

ما دهــاها في لـحظة وثواني         غـمرتها جــحافل الطـوفـان
صادفـتها يـد المقــادير حتماً        وأستـجابت وأستسلمت في ثوان
قد سـاقها ولـيس هـــروباً          أو نشوزاً من مصطفى السوداني
كل هذا يــدعو إلى الشك فيما          قـــدر الله لإبــنة اليــابان
فاشـكروا الله وانهضوا شيعوها         والزموا الصبر في المصاب الفاني
وانقــلوا لي تــحية وسلاماً         لأديـب تعـبــيره أشـــجاني

واستمرت المجاراة فانبرى شاعر سوداني فحل هو الأستاذ ذو النون فضل فكتب للفصيح والشرفي ومصطفى قصيدة نونية من ثلاثين بيتاً سماها (مشاعرالأوفياء الأشقاء) ولولا أنّا نعلم أنه يصف العربة الشهيدة كما سماها لقلنا أنه يصف أجمل عروس يمنية في الثمانينيات .. وأقتطف منها:

يســأل عن شهيدة الموج العنيد        ومـا أصـابها من تـآمر الوديان
وكيـف حـال ابن عبد العــال         حـالك يا صـفوة الأحباب والخلان
فقال شـكراً لك ياصاحب الحوت          هـل أنت مـثلي دائم الأحــزان
إن المصـيبة لـيس لـها مـثيل        لا فـي يمـن ولا فـي دانـشوان
خرجت الكواعب من الخدور صامتات    مـن شـدة الهول وقسوة الأزمان
كانت المرحومة لـكل الجمال حائزة     صبيحة الوجـه فارعة قوية البنيان
سبـحان من وهـب الجـتمال لـها    وملكها مصطفى ورثاها بشاعر فنان
دعـك مـن ابـنة اليـابان وحسنها    ولا تحـزن عـليها فالـكل فــان
ياشـرفي قد أحييت روح الشعر فينا     بعـد ما تركـناه ردحـاً من الزمان
فيا فصيح الخير أنت شـاعر وأديب     اريــب لسـت فـصيح اللـسان
يازيـدي قف وتمـعن شعرك لحظة     وألحظ ما طبعته في اللب والوجدان
فالله قد ربـط الـعلاقة بيننا موثوقة     بوثـاق الحـب والـود والتـحنان
أهـديها لمـن نظـم الشـعر وفاءً      لمـصطفى سليل أهل العلم والقران

لا ننظر الى ظاهر هذه المجاراة الشعرية وانما نغوص فيها ..والسودان عرف المجاراة بين الشعراء باختلاف الموضوع واشير هنا الى نموزج شعراء الكتيبة بقيادة الاستاذ المرحوم النور ابراهيم ناظر المدرسة الاهلية الثانوية ام درمان ايام دراستنا فيها وكان معه كوكبة من الشعراء كأستاذ الاجيال كرف .
ومن خلال القصائد النونية الثلاث للاساتذة الشرفي والـزيدي وذو النون نلم اولاً بما ذكره الشعراء اليمنيون عن أستاذنا، ويتضح ثانياً عادات وتقاليد المجتمع اليمني في تلك الفترة اي تقرأ العادات وتقاليد المجتمع من خلال القصيد .. اي روعة هذه.

وتبرز القصائد ثالثاً دور العلاقات الانسانية وعمقها .. ومقدرة الانسان على الانفتاح وتسخير الطاقات في خدمة الاخرين .ويبرز رابعاً درجة تأثير الاستاذ مصطفى وتأثره بالبيئة اليمنية والتقدير الذي يحفه به الذين حوله ولربما لو هجم طوفان المياه على شخص غيره لما كان بيدنا (على كاهل الموج)، أو (جحافل الطوفان)، أو (مشاعر الأوفياء الأشقاء) ...وهي ليست محصورة في باب الشعر الظريف ومتعة القريض والمناسبات فقط انما توثيق لمجتمع وتأرخة لزمان ومكان وحب الخير للإنسان وتبيان لحكم الله وقدرته.

ومن مفارقات الحياة أن القصائد الثلاث كان موضوعها رثاء لعربة الأستاذ مصطفى والتي احبها ولحاله هو بعد الطوفان .. والمكان قرية الثلوث باليمن والزمان ثمانينيات القرن الماضي (1981 – 1986م).

قال الشرفي: 
عصـف السـيل بابنة اليـابان        وطـوى كـبريـاءها في ثوان
وقال ذو النون:
يسـأل عن شهيدة الموج العنيد       وما أصـابها مـن تآمر الوديان

وقال الزيدي:
ما دهـاها في لـحظة وثـوان        غـمرتها جـحافل الطــوفان

ولكنا بعد حوالي ال 25 عاماً تقريباً وفي قرن جديد نحتفي تأبيناً بصاحب العربة ذاته نفتقده ونتحدث عن سيرته وجليل أعماله والمكان حلفاية الملوك بالسودان والزمان الخميس 19 نوفمبر 2009م.
وقد تحدث كثيرون في ذلك الإحتفاء التأبيني وغلب الشعر على الحديث وأشير إلى شعرعمي الأستاذ معتصم صالح وابنه الدكتور صالح اللذان أبكيا الحضور وقطعوا قلوبهم وتلتهم قصيدة الأستاذة فاطمة إبنة الأستاذ مصطفى فأبكت هي الأخرى الحضور وقطعت أكبادهم ولذلك تبدو الصورة من مفارقات الحياة ولكن يبقى القول رغم اختلاف الزمان والمكان أن هنالك شئ مشترك بين الصورتين والموضوعين هو الفقد، فقدان العربة التي غيبها الطوفان في الأولى وفقدان صاحبها الذي غيبه الموت في الثانية.

ونلحظ الصلة بين الرثاء والمدح وهما متشابهان فالرثاء هو مدح المتوفي والتحسر على صفاته الكريمة التي فقدت بموته وحرم منها الأحياء وهنا يبرز الفرق بين فقدان الإنسان والجماد فحكمة الله جعلت لكل إنسان شخصيته المميزة المتفردة.. في حين لا يتمايز الجماد.. ويبدو ذلك واضحاً بين رثاء العربة (الشرفي، الزيدي، وذو النون فضل) وبين رثاء أستاذي مصطفى (عمي معتصم، د.صالح، وفاطمة مصطفى).
ففي فقدان العربة ورثائها يقودك الشعر إلى الإبتسام وبينما في رثاء صاحبها يفرض الشعر عليك الحزن والآلام.

كما نلحظ إستخدام الشعر الفصيح في رثاء العربة ربما لأنه موجه للمجتمعين السوداني واليمني .. ينما كان الشعر العامي في نموذج (معتصم – صالح – فاطمة) يخاطب المجتمع السوداني وتبدو قدرة الشعر العامي في الرثاء على الدخول مباشرة لتقطيع القلوب والأكباد.

قال الشرفي:
ما عـرفنا عـيباً يشين إبن عبد        العــال لا في ســر ولا إعـلان
يا بن عـبد العــال عـــرفتك         قـلباً أبيـضاً ينتمـي إلى السودان
وقال الزيدي:
قــد سـاقها ولـيس هــروبا        أو نشـوزاً من مصـطفى السوداني
وقال ذو النون:
وكيـف حـال ابن عــبد العــال      حـالك يا صـفوة الأحباب والخلان
إن المصـيبة لـيس لـها مــثيل      لا فـي يمـن ولا فـي دانـشوان
أهـديها لمـن نظـم الشـعر وفاءً      لمـصطفى سليل أهل العلم والقران

الوفاء عند مصطفى:

الوفاء منحة منحها الله إلى الأستاذ مصطفى فمجرداصدار كتابين عن المجتمع اليمني – من خلال المنطقة التي عمل فيها منتدباً – والمجتمع السوداني – من خلال منطقة ود رملى، هي وفاء لأهله وعشيرته وأصدقائه تلامذته وزملائه ومعارفه ومحبيه وكل الذين التقاهم في الفترات الزمانية والمكانية والتي تحدثت عنها القصص التي سردها وحكاها في الكتابين إضافة إلى الإهداء الذي سطره وأبدع سواء للطيور المهاجرة في الذكريات أو والديه في الصور، ولعمري هذا من صنائع معدن الوفاء والذين عاش بينهم .. فعليهم فابكِ .. وإِياهم فاشكر .. ولهم فاوفِ .. ولإِحسانهم فاذكر.

وتحت عنوان (خاتمة لذكريات سوداني في اليمن) (ص 76) يقول: (لقد تعلقت باليمن وأحببتها حباً شديداً ملك علي مشاعري وأحاسيسي ووجداني، وأنامدين لها وهي مدينة لي وكل منا مدين للآخر، مديناً لها وجدت فيها صديقاً متفرداً أفضله على نفسي (الأستاذ الفصيح) وارى فيه كل الصفات الجميلة التي منحت للبشر فهو انسان بمعنى الكلمة يتصف بصفات عظيمة لا تخرجه عن دائرة البشر، ولكنه ملاك في صورة انسان، وأنا مدين لليمن بأنها أهدت إلي صداقته وحبه وإخلاصه... وأرسل أزكى التحيات والتبريكات للشعب اليمني العظيم الذي أولاني هذا الحب الكبير وأمنياتي أن أرى يمنكم السعيد يسوده السلام والأمان وأن يرقى في مدارج التقدم والحضارة.. آمين)

وتحت عنوان صور ونماذج بشرية (ص 49) يقول: (لقد أحببت ود رملي وأحببت في أهلها الطيبة والبساطة وأحببت تعاملهم مع الناس وأحببت توادهم وتعاطفهم وتعاملهم وتراحمهم. كانوا مثلاً للمجتمع الريفي المتآلف الولوف على السجية. أحببتهم فأحبوني .. ملت اليهم فمالوا إلي فتزوجت منهم فكانت نعم الزوجة ولوف ودود ولود.. سعدت معها طيلة هذه السنوات والتي مرت كلمح البصر فقد كانت الركن والملجأ الذي آوي إليه عندما تدلهم الأمور، وتضيق الحال وتتوالى علي الأزمات فأجد في صدرها الحاني السعة والدفء والسكينة فأجتازها بفضل تشجيعها ووقوفها معي تصد عني عاديات الزمن وتدفع عني الكرب.
صحبتني في كل تنقلاتي القاصية والدانية في صبر عجيب وتحملت معي قسوة الحياة وشظف العيش وقاسمتني حلوها ومرها.. سافرت معي إلى اليمن عندما انتدبت موجهاً فنياً فوفرت لي راحة البال والسعادة وأنستني مرارة الغربة وهم الوحدة.

لا يفوتني أن أذكر أنها تؤدي صلواتها في خشوع وخشية .. كانت ساعدي الأيمن في صب قوالب الجبص في ملكال (1973م) كما أنها كانت تساعدني في تفريغ اللافتات وطباعتها ببراعة تدل على موهبتها وحبها للعمل الفني.

أسأل الله الكريم أن يديم عليها العافية وأن يمد في أيامها وأن أرحل من هذه الدنيا راضياً مرضياً بإذن الله قبلها ولو بيوم واحد.. إنه سميع مجيب).
فأستجاب له ربه الدعاء – بالرحمة.

ونختم وداعاً لصديقي وأستاذي مصطفى:
ورفاقي طيبون 
ربما لا يملك الواحد منهم حشوة فم
ويمرون على الدنيا خفافاً كالنسم
ووديعين كأفراخ حمامة
وعلى وجوههم عبء كبير وفريد
عبء أن يولد في العتمة مصباح جديد.

عبد العزيز خالد العمدة
حلفاية الملوك
الخميس 19 نوفمبر 2009م
الموقع الإلكتروني: WWW.TAHALOF.ORG



Source: www.tahalof.info


رأي ـ تعليق  



هل قرأت المقال اعلاه؟   
اكتب    
 
 
 
 
 
  
site created & hosted by