# # # #
   
 
 
[ 20.03.2011 ]
جنازير أبو جنزير ـ أمير بابكر عبدالله




الدعوات الكثيرة التي ظل قادة السلطة يطلقونها حول الحوار والحريات والتغيير، كل يوم تثبت أنها مجرد (كلام جرايد)، فما أن يطل اختبار حقيقي لهذه المقولات على أرض الواقع حتى يصاب النظام بالفزع والهلع من أعلى رأسه حتى أخمص قدميه. مجرد الإعلان عن وقفة (تضامنية) للمعارضة، مع الشعوب العربية التي نجحت في التخلص من أنظمتها، هزم كل تلك المقولات التي تطلق في الهواء عن التغيير والحريات والحوار. وبدأت الحملة المضادة فور ذلك الإعلان مرة بالتقليل من قدرات المعارضة على حشد عضويتها ومرات بالتهديد بردعها وحسمها بقوة (القانون)، القانون الذي اول ما يسلبه هو حق حرية التعبير السلمي ولو (تضامناً) مع الشعوب العربية.

جملة تناقضات دائماً ما يقع فيها المؤتمر الوطني وقيادته، لا تعبر سوى عن رغبتهم واستماتتهم في الإستمرار في السلطة، وتكشف عن تبنيهم لمقولة "نحن أخذناها بالسلاح ومن أرادها فليأخذها بالسلاح"، وأنهم لم يفارقوها قط، تلك المقولة التي أودت بالبلاد إلى التهلكة ومزقتها.

الحديث عن الحوار مع المعارضة هو أولاً إعتراف بأن هناك معارضة وأن هذه المعارضة مؤثرة للدرجة التي تجبر السلطة للجلوس والحوار معها، وثانياً هو اعتراف بأن هناك قضايا وأزمات تفرض هذا الحوار طالما فشلت السلطة في التعاطي معها عبر آليات أخرى، سواء عن طريق إضعاف القوى السياسية وضرب وحدتها أو الاعتقالات او التصدي الأمني والعسكري لقضايا يمكن حلها بإدارة حوار جاد ومسئول. من الطبيعي أن تكون هناك مطلوبات لإدارة أي حوار، ومبادرات إيجابية تقدمها السلطة قبل البدء في مناقشة القضايا والأزمات الرئيسية، فالمعارضة ليس لديها ما تقدمه في هذا المجال. فلا يمكن أن ينطلق أي حوار وهناك معتقلين لأسباب سياسية، وقوانين مسلطة على رقبة الممارسة السياسية والعمل المعارض، كلما شعرت السلطة بأن الأرض تميد تحت أقدامها تستل قوانينها من الجفير. هذا حوار بين سجان ومسجون لذلك يبدو مختلاً، لأن أجندته سيكون سقفها متدني لا يرقى لمستوى القضايا الكبرى. المطلوب أولا إطلاق سراح المسجون حتى يمكن الدخول إلى جوهر القضايا المرتبطة بالدولة والتنمية.

إن العقول التي تقلل من قيمة وقدرات المعارضة وتتعاطى مع السياسة في الحياة العامة بمنهج ممارستها في أروقة الجامعات ليست جديرة بالجلوس معها لإدارة حوار حول القضايا الكبرى، وهي عقول بعض قادة المؤتمر الوطني.

ويحدثونك عن الحريات، وهي المقدمة على ما سواها، فهي الهواء والماء المطلوبين للحياة السياسية وبدونها لايمكن الحديث عن ممارسة سياسية أو حكم رشيد. وفي ظل غيابها ينمو وينتشر الفساد والإفساد فيروس الفشل السياسي والإنهيار الاقتصادي والأخلاقي. فكما تقدم حتى الحوار في ظل غياب الحريات يولد ميتاً ولا نتوقع منه مخرجات بقدر حجم القضايا الماثلة. ما تضمنته وثيقة الحقوق يكفي لتأسيس بيئة صحية لنمو ممارسة سياسية متقدمة وواعدة بالعطاء الإيجابي. لكنهم طالما يحدثونك عن الحريات بلسان وينزعونها عنك بقانون القوة فهم لا يتركون للآخرين خياراً سوى إنتزاعها ويمهدون الطريق لمزيد من الاحتقان.
أكثر ما يخشاه الفساد وبالتالي المفسد هو حرية التعبير وحق الحصول على المعلومات لأنه يكشفه ويضربه في مقتل، فمحاربة الفساد تبدأ بإقرار حرية التعبير ومطلوباتها وتنتهي بمحاكمة مرتكبيه، وهي التي تظهره على الملأ مما يعني بداية موته لأنه يعيش في الظلام وينمو في الظل بعيداً عن الرقابة. واكثر ما يخشاه المؤتمر الوطني أيضاً حرية التجمع والتظاهر، وله الحق في ذلك، لأن الحرية تعني فقدان القدرة على القمع وبالتالي السلطة، لذلك عليه أن يضييق على المعارضة ولو إضطره ذلك إلى مطاردتها حارة حارة وزنقة زنقة وبيت بيت. ماذا سيكون مصير برج الفاتح يا ترى؟ سألني احدهم قبل يومين هذا السؤال. دع عنك حرية الفكر والرأي فهي التي ستهزمه وتعري سوأة عقليته في إدارة أمور البلاد والعباد.

إذا لا قيمة لأي حوار في ظل غياب الحريات، وستظل البلاد مقيدة بالجنازير غير قادرة على التقدم وعاجزة عن إستخدام مواردها البشرية والطبيعية لصالح العباد حتى تشيخ، طالما ظل سقف القضايا متدنياً بفعل وضع السجان والمسجون.

مثلما ركب المؤتمر الوطني موجة الحريات قولاً، بسبب التظاهرات والثورات التي هبت من حوله ويدعي بعض قادته إنها لن تؤثر فيهم وكأنهم معصومون، طفت إلى السطح أحاديث عن ضرورة التغيير. وهذا يذكرني بنكتة الفنان الذي اعتاد قبل أن يؤدي وصلته الغنائية ان يدعمها (بكأسين تلاتة) ينشط بها شرايين إنفعالاته، حين تمت دعوته لمنطقة ريفية لا يتعاطى اهلها المكروه عمداً دع عنك الحرام لإقامة حفل بمناسبة زواج احد ابنائهم، قدموا له شاي لبن (تقيل) فقدم فناننا وصلته الأولى كلها أغنية وطنية واحدة. وصعد للمرة الثانية بعد أن تجرع الشاي مضطراً ليقدم ذات الأغنية، فاحتج الحضور وطالبوه بالتغيير فقال لهم (غيروا الجوة أول حاجة).

يبرز السؤال الأهم، هل المؤتمر الوطني قادر على دفع إستحقاقات التغيير الذي ينادي به بعض قادته هذه الأيام؟ فالتغيير لا يعني وضع حد اعلى لسن التقاعد من العمل السياسي، فها هو سكرتير الحزب الشيوعي الأستاذ محمد إبراهيم نقد جاء إلى ميدان أبو جنزير رغم الجنازير التي أغلقتها به الشرطة والأمنن وأثبت أنه أكثر شباباً وقدرة على العطاء.

التغيير لا يأتي إلا عبر بسط الحريات وإزالة كل المتاريس التي تعيق ممارسة العمل السياسي والنقابي والإعلامي وتطلق الطاقات للبناء والتنمية، وهذا يتطلب شجاعة كافية لا تتوفر حالياً لدى المؤتمر الوطني كمؤسسة، وربما تتوفر لأفراد فيه يعبرون عنها بطرق مختلفة. هذا الشجاعة لا تتاتى إلا إذا فك أسر نفسه من داخل سجن الخوف من تداعيات بسط الحريات، إذا كان حريصاً على الوطن وعلى المواطن. وعلى قادته الإجابة على سؤال هل يستطيع المؤتمر الوطني أن يضع حداً بينه كحزب سياسي وبين اجهزة الدولة، ويجلس مع الأحزاب في مقعد واحد؟ عندها فقط سيكتشف حجمه الحقيقي عندما تتقلص مصالح المتسلقين على أكتاف احزاب السلطة دائماً، وهو ما حدث لأحزاب سلطة كثيرة في المنطقة سابقاً والآن التي سرعان ما انهارت ولم تجد من يدافع عنها إلا قلة. وهو ما حدث في السودان على أيام إتحاد نميري الاشتراكي.
احزاب السلطة دائماً ما تخشى الحوار والحريات والتغيير إلا إذا أضطرت إلى ذلك إضطراراً، وهي لا تذهب في هذا الطريق عن أصالة بل بما يتيحه لها من فرصة للإلتفاف والعودة مرة أخرى إلى مربعها الأول. فالحريات والحوار والتغيير ليست آلياتها وليست بالماء الذي يمنحها الحياة ولا الهواء التي تتنفسه. وهي ليست بأحزاب جماهيرية طالما ابتعدت عن استخدام أجهزة الدولة وتجييرها لصالحها.



Source: www.tahalof.info


رأي ـ تعليق  



هل قرأت المقال اعلاه؟   
اكتب    
 
 
 
 
 
  
site created & hosted by