# # # #
   
 
 
[ 20.01.2011 ]
ما زال هناك وقت ـ أمير بابكر عبدالله




لا نحتاج لمزيد من الدماء لإقامة وطن يسع الجميع، بعد أن وضعنا بعض منه على كف عفريت، بل يمكن قطع القول أنه ضاع منا فعلاً. ولا نحتاج لإضاعة الوقت أكثر حتى نبني وطن بقدر التحدي الذي ينتظرنا، فلم يفت الأوان بعد لإقامة وطن يسع الجميع. أنهر من الدماء سالت، كلهم سودانيون.. أكثر من مليوني مواطن سوداني راحوا ضحية الحرب في جنوب السودان. آلاف المواطنين ماتوا في شرق السودان والنيل الأزرق والشمالية بسبب الحرب وغير الحرب، آلاف المواطنين من قتلى ومشردين من أبناء السودان في دارفور راحوا ضحية السياسات والمعالجات التي لا تستقرئ الواقع بحساسية عالية، وغير قادرة على الخروج من عباءة الرأي الأحادي. عدم الحساسية والإفتقار إلى القراءات الموضوعية لدى السلطة منذ الاستقلال وحتى الآن وغياب مراكز الاستشعار السياسي والاجتماعي عن بعد ولي عنق الواقع ليتناسب مع ما ينتجه العقل الأحادي، كلها ساهمت في إنتاج سودان اليوم الواقف على قمة أزمته، المتربع على عرش إحتقانه.

ما زال هناك وقت لنحافظ على ما تبقى، ما زال هناك وقت ليستقيم أمر الوطن بأن نعيد بنيان قاعدته ليقف شامخاً يستظل بظله الجميع. يحتاج المؤتمر الوطني القابض على السلطة إلى ثورة داخله تغير من طرق تفكيره ومنهجه في التعاطي مع قضايا الوطن. فالوطن وقضاياه لا يدار بالإنفعال الزائد ولا بالتعنت والكبت والقهر، خاصة إذا كان الوطن هو السودان بتركيبته الإثنية والثقافية والدينية وحتى الجغرافية. إذا أعاد المؤتمر الوطني البصر كرتين إلى داخل تركيبته التي يزعمها لوجد ذلك الواقع ماثلاً أمامه، ناهيك عن كل الوطن. سيجد التعدد يصبغ واقعه نفسه، وخروج العديدين من تحت عباءته مؤشر يستوجب إعادة النظر. فقد خرج من تحت عباءته خليل إبراهيم إبن دارفور وكثير من أبناء دارفور كان ولاؤهم ليس للمؤتمر الوطني فحسب بل للحركة الإسلامية صاحبة الملكية الحصرية لذلك المؤتمر، ولا يزال هناك أبناء من دارفور داخله، خرج منه عدد مقدر من قطاع الجنوب لينضم للحركة الشعبية مع ملاحظة أنه ما زال هناك جسم في الجنوب يعمل حتى الآن تحت إسم المؤتمر الوطني، وغيرهم من أبناء مناطق عديدة في السودان، ولا نود الإشارة هنا إلى خروج أحزاب عديدة من تحت عباءته كالمؤتمر الشعبي وغيرها. فواضح جداً إن ماعون المؤتمر الوطني بصيغته الحالية أكثر ضيقاً لكي يستوعب مناصريه وطارد حتى للعديد من مفكريه، فحزب هذه قدراته وهذا هو منهجه من الطبيعي أن يرفض مكون أساسي من مكونات الوطن العيش تحت سلطته وهو ما يشير إليه مصير الجنوب الآن.

الواقع السياسي اليوم يتطلب قدراً كبيراً من الشجاعة للإعتراف بالفشل، وإذا كان الإعتراف هو سيد الأدلة في العرف القانوني، فإنه في العرف السياسي أول الخطوات لتلمس سبل النجاح. ففشل تجربة المؤتمر الوطني في الجكم قادت إلى واقع اليوم المحتمل فيه بدرجة كبيرة إنفصال الجنوب، عدم الإعتراف بذلك ومحاولة إعادة إنتاج سني الإنقاذ الأولى في ظل الإزمات الحالية وحالة الإحتقان الماثلة الآن لن تقود إلى إستقرار ينشده المواطنون، بل ستقود إلى مزيد من الصراع والدمار.
إن عدم الاعتراف بالفشل وعدم إعادة النظر في مناهج وادوات العمل السياسي التي يدير بها المؤتمر الوطني نفسه والوطن هي التي فتحت الطريق أمام التدخل الأجنبي والمؤامرات الخارجية في الفترة السابقة. إذا استمر ذات النهج فلن يجدي الحديث عن مؤامرات وتدخل خارجي. فإذا كان العالم الخارجي ينتظر فرصة التدخل وفقاً لمصالحه فإن ذلك يعد بمثابة إعطائه الضوء الأخضر للتدخل، كما إنه سيدفع البعض للإستقواء به في لحظات اليأس، مثلما دفع القوى السياسية لحمل السلاح قسراً في الوقت الذي كان مطلوباً معالجة أزمات الوطن بحكمة وشجاعة.

الوطن أكثر حاجة إلى سلطة قوية قادرة على إنجاز خطط وبرامج تنموية هادفة إلى إشباع حاجات مواطنيها، وليس سلطة قاهرة وباطشة تستثمر في الخوف، خوفها هي وتخويفها لمواطنيها، وبين خوفها وتخويفها لمواطنيها يجد المفسدون ضالتهم وهم وحدهم المستفيدون من هذا الوضع وإستمراره. وكما يقال أن للصبر حدود فإن للخوف حدود. وكذلك يحتاج لمعارضة قوية قادرة على ضبط إيقاع تلك السلطة من أي إنحرافات. إن وجود معارضة قوية يحسب لصالح السلطة وليس خصماً عليها، فالحكومة والمعارضة هما مكونا تلك السلطة، وكل له دوره المناط به. أي خلل في هذه المعادلة يعني أن هناك خطأ ما يجب تداركه. وكمثال لدور المعارضة القوية هو محاقظتها على توازن السلطات وإستقلالها خاصة التشريعية والقضائية، وبالتالي قدرتها على الحد من الفساد سرطان الدول الفاشلة، فالفساد لا يستشري إلا في ظل إختلال هذا التوازن.
الوضع القائم الآن معتل ومصاب بخلل بسبب المدخل الخاطئ لبلوغ السلطة وهو إنقلاب الحركة الإسلامية على السلطة الذي أحالنا إلى الوضع الراهن. ما زال هناك وقت لمعالجة حالة الإحتقان والتخفيف من حدة الأزمات المستفحلة والتضحية المطلوبة الآن هي الاعتراف الشجاع بالخطأ، خطأ المدخل للسلطة وخطأ المنهج السياسي في التعاطي مع الأزمات.

أول خطوات العلاج هي الثقة في مشروع الدولة المدنية الديمقراطية وعاءاً يستوعب إختلافات الوطن. كلما استمع للغلاة من أنصار الإسلام السياسي أزداد ثقة في مشروع الدولة المدنية، ولعل آخر ما استمعت إليه برنامج حواري يقدمه الأستاذ الطاهر حسن التوم " مراجعات" استضاف فيه إسلاميون على درجات متفاوتة من التشدد، أحدهم يؤمن بالقتوى التي أصدرتها الرابطة الشرعية للعلماء (وهل هناك رابطة غير شرعية) بحرمة التصويت في الاستفتاء وحرمة تقرير المصير، فسأله الدكتور عصام أحمد البشير (أحد المستضافين) وهو الأكثر موضوعية فيمن أتابع أحاديثهم وكتاباتهم، سأله إن هذا التحريم والتجريم لابد أن يتبعه ما يلزم به وأشار بوضوح إلى أن من اجاز هذا الاستفتاء هو ومتطلباته هو رأس الدولة. وأنا أسأل أنصار هذه الفتوى ما هو موقفهم من رأس الدولة الذي أجاز ذلك الأمر. إن مشروع الدولة المدنية الديمقراطية يمكن تشبيهه ب(عربي جوبا)، كل قبائل الجنوب تتحدثها وتتفاهم بها كوعاء حامل وفي ذات الوقت تتخاطب القبائل فيما بين أفرادها بلغاتها الخاصة. إن مشروع الدولة المدنية الديمقراطية يستوعب حتى إختلافات الإسلاميين فيما بينهم على مستوى الجدل الفقهي الذي يديرونه، ويغلق الطريق أمام مفاهيم العنف والتكفير التي ينتهجها بعضهم ليس ضد (الكافرين) ولكن ضد بعضهم البعض.

ثاني الخطوات هي تكوين حكومة إنتقالية قومية لأجل معلوم، يعاد بموجبها ترتيب البيت السياسي السوداني بحيث يؤسس لذلك المشروع بخطة وبرامج متفق عليها، وإقرار دستور دائم للبلاد تدار فيه البلاد مستقبلاً وفقاً للدولة الرضائية المتفق حولها. وتضع تلك الحكومة المعالجات قصيرة الأجل التي تبطل مفعول استفحال الأزمات المستشرية، ومن ثم تضع الخطوات اللازمة لمعالجات جذرية لها تعيد للوطن عافيته وتنهض به من كبوته. تقر المبدأ العام للحريات وتعالج كل المواد الدستورية والقانونية التي تتعارض مع مبدأ إتاحتها. تعالج الآثار السلبية للسياسات الاقتصادية التي قادت إلى إفقار المواطنين ورسم ووضع برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية بما يتناسب والنمو الاقتصادي. الإعداد لإنتخابات عامة وإجرائها بعد إنقضاء أجل تلك الحكومة.
لا أجد ما أقوله سوى ما قاله سيدنا نوح لربه، إني دعوت قومي ليلاً نهارا، وأرجو أن لا يزيدهم دعائي فرارا وان لا يجعلوا أصابعهم في أذانهم ويستغشوا ثيابهم ويصروا ويستكبروا استكبارا. فما زال هناك وقت.



Source: www.tahalof.info


رأي ـ تعليق  



هل قرأت المقال اعلاه؟   
اكتب    
 
 
 
 
 
  
site created & hosted by