# # # #
   
 
 
[ 24.05.2010 ]
الإنفصال بين الرغبة السياسية والظاهرة الإجتماعية (1-2) ـ أمير بابكر عبدالله




الإنفصال، الإنقسام، الإستقلال مفردات دخلت قاموسنا اليومي بشكل يصعب تجاوزه، وصارت متداولة حتى في الحوارات العادية بين الأفراد والجماعات بشكل منظم أو غير منظم. والمفردة الأبرز هي الإنفصال التي إرتبطت بممارسة حق تقرير المصير لجنوب السودان كما ورد في الإتفاقيات والدستور الإنتقالي، وعند الكثيرين يعني ممارسة ذلك الحق الإنفصال مباشرة دون المرور بالخيار الآخر وهو الوحدة، رغم أن الإستفتاء هو بين خيارين هما الوحدة والإنفصال.

الإعتراف بذلك الحق الذي نصت عليه مواثيق الأمم المتحدة، ظل يمثل إشكالية لدى منظوماتنا السياسية بل وحتى مجمل نظامنا السياسي إلى وقت قريب، ويشمل ذلك حتى القوى التي رفعت السلاح في الجنوب ضد المركز التي ظلت متنازعة بين الرغبة في العيش تحت ظل دولة مستقلة أو الإستمرار في نظام الدولة الواحدة بصيغة حكم تعترف بحقوقهم وخصوصيتهم. لم يكتسب ذلك الحق الإعتراف الدستوري والقانوني إلا بعد التحولات الجذرية في مفهوم الحرب وإنحرافها القيمي بعد حقنها بطابع الجهاد الديني بعد سيطرة الإسلاميين على الحكم إثر إنقلاب 1989.

الإستقلال في العرف هو الأصل عند إستصحاب التاريخ السياسي للدول، وهو ما يجعله غير خاضع لخصائص الظاهرة الإجتماعية، في مقابل الإستعمار وهو الإستثناء الذي يمثل ظاهرة سياسية وإقتصادية تظل المقاومة بمختلف آلياتها هي الوسيلة لمواجهته. كثيرة هي النماذج التي تشكل مثالاً ساطعاً لدول أستُعمرت فقاومت شعوبها ثم استقلت، خاصة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وإعادة تقسيم العالم بحدود دولية جديدة. والظاهرة السياسية هنا هو خلق دول منقسمة على نفسها بناءاً على تقسيمات تراعي مصالح دول الحلفاء المنتصرة في الحرب، وتحقق توازن القوى الجديد وفق منظور السيطرة على العالم. نموذجاً لذلك هو الكوريتان الشمالية والجنوبية (والشعب الكوري واحد)، حين قدمت الأمم المتحدة مخططها لإدارة شبه الجزيرة الكورية بعد هزيمة اليابان لتصبح إدراة الجزء الشمالي من نصيب الإتحاد السوفيتي والجزء الجنوبي من نصيب الولايات المتحدة الإمريكية وتتسبب الحرب الباردة بينهما في خلق دولتين منفصلتين لتظل هناك –وحتى الآن- كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية.

في أفريقيا، إذا أخذنا سيرة دولة إرتريا السياسية فقد ظلت خاضعة للإستعمار الإيطالي وبعد هزيمة دول المحور التي تشكل إيطاليا إحدى أضلاعها خضعت لإدارة الإنتداب البريطاني، ومن ثم للحكم الإثيوبي. عندما خاض شعبها نضاله من اجل الإستقلال، ورغم بعض الأصوات الإرترية التي نادت بالحكم الذاتي تحت مظلة الإمبراطورية الإثيوبية، إلا أن وضوح الهدف ووجود إرتريا كدولة في مضابط المنظمات الدولية وعلى واقع الأرض هو ادى الشرعية للحرب من أجل الإستقلال. رغم ذلك مارس الشعب الإرتري إستفتاء لتقرير بقاءه ضمن دولة إثيوبيا أو إستقلاله بدولته وذلك بعد عامين من تحرير إرتريا وحسب رغبة الحكومة المؤقتة بالرغم من إعتراف الحكومة الإثيوبية الجديدة بممارسة الشعب الإرتري لحقه الفوري في تقرير المصير عقب التحرير.
بعكس شبه القارة الهندية التي وقع المستعمر الإنجليزي على فرمان إنفصالها بمجرد إعلان إستقلال الهند لتظهر دولة أخرى هي باكستان، السودان بطبيعته الجغرافية والسياسية التي بدأت في التشكل مع بدايات الإستعمار التركي، وبمآلاته الحالية ليس خاضع لعناصر وخصائص الإستقلال إذا ما جاء موعد الإستفتاء على حق تقرير المصير لجنوب السودان، بقدرما هو خاضع للبقاء موحداً أو الإنفصال ومن ثم تكوين دولة مستقلة. الإنفصال هنا سيحدث (إذا ما وقع) داخل دولة موحدة، بعد إستقلالها بأكثر من نصف قرن، قامت على حقائق تاريخية قاسمها المشترك هو الرغبة في البقاء في إطارها رغم التنوع والتعدد الذي اتسمت به مكوناتها، فشل هذه الدولة في إدارة التنوع والتعدد، وعدم القدرة على صياغة المشروع الكاريزما بدلاً من السعي لخلق والمحافظة على القائد الفرد الكاريزما هو الذي أفرز هذا الواقع وجعل من الإنفصال يبدو كظاهرة إجتماعية بدلاً من كونه رغبة سياسية يمكن معالجتها بآليات المصالح والحكمة السياسية.

يعرف عالم ومؤسس علم الإجتماع دوركايم الظاهرة الإجتماعية بأنها كل ضرب من السلوك ثابتاً أو غير ثابت يمكن ان يباشر نوعاً من القهر الخارجي على الأفراد، أو هي كل سلوك يعم المجتمع بأسره مستقلاً عن الصور التي يتشكل بها في الحالات الفردية. وتتمحور خصائص الظاهرة الإجتماعية حول الموضوعية أي مستقلة بوجودها خارج شعور الفرد وذاته، والإلزامية بحيث تحمل صفات الجذب للتعاطي معها أو يستجاب لها فرضاً مثل الأخلاق واللغة والدين، وكذلك من خصائصها أنها إنسانية النشأة، وتلقائية بحيث يمارسها الفرد دون تردد، ثم لابد لها من ان تكون مترابطة مع بقية الظواهر الاجتماعية الأخرى ومع البيئة الاجتماعية التي ولدت فيها.
يطل السؤال هنا إذا ما كانت الرغبة في الإنفصال قد تحولت إلى ظاهرة إجتماعية؟ الإجابة ليست بتلك السهولة، لكن بقراءة وقائع التاريخ الحديث للسودان ومحاولات تحليله المختلفة، لم تكن الرغبة في الإنفصال (الجنوب عن الشمال أو الشمال عن الجنوب) هي الأصل، بل كانت الرغبة في التعايش والوحدة هي السائدة. يدعم ذلك مسيرة النضال المشترك ضد المستعمر الأول او الثاني. ودون تجاهل مسيرة الحروب الداخلية وممارسات تجارة الرقيق في مراحل سابقة وما أفرزته من ظلامات يتم إستدعاؤها الآن لتعزيز نوازع الإنفصال، ظلت الحياة المشتركة والتعايش هو السائد، والإتجاه نحو الوحدة هو الغالب.

ما يعزز هذا الإتجاه هو النضال المشترك ضد المستعمر، فغير تلك الثورات التي إنطلقت ضده في الشمال، فقد أدركت شعوب الجنوب مخاطر الإستعمار وقادت قبائلها ثورات مسلحة ضده أيضاً في الجنوب في تواريخ تكاد تكون قريبة من تلك الثورات التي إنطلقت في الشمال، وأبرزها ثورة الزاندى 1901- وثورة النوير 1902، ثم تمرد الدينكا 1919 و1922، ثم النوير ثانية 1927-1929. وهي حركات مقاومة لم تكن موجهة ضد (الجلابة) ولا (العرب) في حينها، بل تكاد تتزامن في توقيتها من حركات مقاومة ضد المستعمر في الشمال مثل ثورة ود حبوبة وحركة اللواء الأبيض، ليتغير المشهد بعد الإستقلال أو حتى قبله بسنوات قليلة.

تغيُّر المشهد أبرزه أبيل ألير في نقض العهود الذي لازم الأداء السياسي: "بهذا لم يكن منتظرا من قانون الحكم الذاتى الذى جاء نتيجة تواطؤ مصر وبريطانيا والأحزاب الشمالية أن يشتمل على الضمانات اللازمة للجنوب والتى كان يتمسك بها ممثلوه فى مؤتمر جوبا عام 1947. ثم جاءت الخديعة الثالثة عند سودنة الخدمة العامة حين نال الجنوبيون ست وظائف فقط مقابل ثمانمائة وظيفة للشمال. "ولما اجتمع البرلمان فى التاسع عشر من ديسمبر 1955 ليتناول اقتراحا يرمى لإعلان الاستقلال تقدم الأعضاء الجنوبيون بشرط يلزم تحقيقه ثمنا لموافقتهم على الاقتراح هو قيام نظام فيدرالى للحكم يساير روح مؤتمر جوبا، وقد رأى الزعماء الشماليون قبول هذا المطلب لكنهم فيما اتضح بعد ذلك لم يكونوا جادين فى تأييده.

لكن حتى تغير المشهد لم يغرس نصلاً حاداً في خاصرة الوحدة، وإنما ظل الإنفصال رغبة سياسية ذات أثر محدود، أكدتها تلك الرغبة الغالبة في بقاء السودان موحداً وفق صيغة حكم تستوعب الجميع بالرغم من القتال المسلح الذي إندلع. لعل هذا ما أكده جوزيف قرنق، القيادي الشيوعي البارز الذي أعدمه النظام المايوي عام 1971، وهو يصنف الإتجاهات السياسية للجنوبيين إلى ثلاثة: يمينيون ينطلقون من قاعدة عنصرية عمادها أفرقنة الجنوب وعربنة الشمال مما يستدعي الإنفصال، ومرتبكون هم الأكثر قاعدة يقدمون خوفهم من نتائج الإنقصال على كراهيتهم للشمال، واليساريون (وهو منهم) فيتبعون تكتيك التحالف مع الديمقراطيين في الشمال ضد الإمبريالية ومن أجل التقدم ولا يقبلون العنصرية التي تفضل الإنفصال.

حجم المرارات الكبيرة التي صاحبت الحرب الأولى والثانية والتي أعقبتها هدنة 1972، وجراحاتها التي ما فتئت تنفتح بين الحين والآخر، لم ترجح كفة الإنفصال على الوحدة برغم الحقيقة التي أبرزها أروب مادوت في مقدمة كتابه "السودان، الطريق الشاق للسلام" بأن عملية دفع هذا البلد للوحدة كانت تتطلب من آباء الإستقلال رؤية ثاقبة وخيال متطور، لكنهم فشلوا بعد الإستقلال في تلبية تطلعات الشعب. هذه الحقيقة لم تمنع الحركة الشعبية لتحرير السودان من محاربة الرؤى الإنفصالية داخلها وهي تخطو خطواتها الأولى وتنتصر لفكرة أن المشكلة سودانية وليست مشكلة الجنوب، وبالتالي فإن التحرير هو للسودان وليس للجنوب و"من أراد أن يحرر الجنوب فليقف عند حدوده، بينما سيستمر الوحدويون إلى تحرير كل السودان" أو كما قال الراحل د. جون قرنق.

هذه الفكرة (سودانية المشكلة) لا تنفصل من جملة رؤى إجتماعية وثقافية تبنتها بعض القيادات الجنوبية البارزة، حيث أكد فرنسيس دينق أنه لا يمكن القطع بثنائية التركيب الثقافى أو العنصرى للسودان على أساس شمال/ جنوب وبالتالى فثمة أساس قوى للوحدة وبناء الأمة. وتبقى المشكلة فى أن التاريخ السياسى هو الذى أكد على عناصر الانقسام ودعم إحساس عدم الثقة والعداوة. يدعم هذا التوجه رأي لبونا ملوال أيام Sudan Now إبان الحكم المايوي بقوله " إذا نظرنا إلى تركيب المجتمع السودانى، فإننا يمكن أن نلاحظ  خطر الأخطاء التى يمكن أن يقع فيها كل من يحاول أن يقسم السودانيين إلى أقسام محددة على أساس عنصرى.. وفى الحقيقة لا يوجد فى السودان عرب وأفارقة، بل يوجد خليط متجانس من العرب والأفارقة السود، نتج عنه نوع لا يريد السودانيون أن يعرفوه بأنه عربى فقط أو أفريقى فقط، ولا يريد أن يتخلى عن دوره العربى أو دوره الأفريقى... ولذا استقر رأينا فى السودان أن نسمى أنفسنا بأفريقيا المصغرة.

 (2-2)
إذا كانت الظاهرة الاجتماعية تدرس باعتبارها آثاراً ونتائج مترتبة على وقائع إجتماعية شكلت أنماطاً متكررة وعامة وجماعية من النظم والقواعد والاتجاهات، فإن ما سقته في الجزء السابق من هذا المقال حول الإنفصال يدخله ضمن الرغبة السياسية والنزعة الذاتية. لذلك يظل التساؤل المطروح قائمة هنا إذا ما كانت الرغبة السياسية في الإنفصال قد تحولت إلى ظاهرة إجتماعية.

ولأن المعني بممارسة الإستفتاء لتقرير مصير الجنوب وتحديد بقائه ضمن حدود الدولة المتعارف عليها أو الإنفصال هم مواطنو الجنوب وليس غيرهم يقول نص إتفاقية السلام الشامل في المادة 2-5 من بروتوكول مشاكوس النسخة العربية " عند نهاية الفترة الانتقالية التي مدتها (6) سنوات، يكون هناك استفتاء لشعب جنوب السودان تحت رقابة دولية يتم تنظيمه بصورة مشتركة بواسطة حكومة السودان والحركة الشعبية؟الجيش الشعبي لتحرير السودان لكي: يؤكد على وحدة السودان عن طريق التصويت لإعتماد نظام الحكم الذي تم وضعه بموجب إتفاقية السلام، أو التصويت للانفصال." الأمر الذي أكده الدستور الانتقالي 2005 في الجزء الخاص بالاستفتاء على تقرير المصير

222 ـ (1) يجرى، قبل ستة أشهر من نهاية الفترة الانتقالية، استفتاء بإشـراف دولي لمواطني جنوب السودان تنظمه مفوضية استفتاء جنوب السودان بالتعاون مع الحكومة القومية وحكومة جنوب السودان .
(2) يصوت مواطنو جنوب السودان إما :

(أ) لتأكيد وحدة السودان بالتصويت باستدامة نظام الحكم الذي أرسته اتفاقية السلام الشامل وهذا الدستور،   أو
(ب) اختيار الانفصال.

جاء ذلك على عكس ما ورد في إتفاقية القاهرة عام 1953 بين الحكومة المصرية وحكومة المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وشمال آيرلاندا بشأن الحكم الذاتي وتقرير المصير للسودان التي ورد فيها أن من واجبات الجمعية التأسيسية (في ذلك الوقت) الإختيار بين أمرين:

1. إرتباط السودان بمصر على أي صورة أو 2. الإستقلال التام.

ففي ذلك الوقت كان الخيار بين الإتحاد مع مصر أو الإستقلال عبر آلية التصويت داخل الجمعية التأسيسية باعتبارها دولة مستعمرة، أما الآن فقد إختلفت الآلية وهي عبر الإستفتاء لمواطني الجنوب ليختاروا بين الوحدة والإنفصال عن الدولة الموحدة.

اللافت للنظر أن إتفاقية السلام الشامل أحالت القرار النهائي لمواطني الجنوب ليقرروا عبر الإستفتاء بدلاً من ترك الأمر لنواب البرلمان في الجنوب وهم بالضرورة ممثلو الشعب الذين تم انتخابهم، مثلما ترك الأمر لنواب الجمعية التأسيسية لإتخاذ قرار الإستقلال أو غيره. وهي محاولة للتنصل من مسئولية سياسية بإعطائها بعداً جماهيرياً ويمكن وصفها (المحاولة) بالإرتباك وعدم اليقين مما يشكك في إحتمال تحول الرغبة السياسية إلى ظاهرة إجتماعية.

فواحدة من خصائص الظاهرة الإجتماعية والتي تتمثل في الإلزامية تنتفي هنا، حيث يحمل الخيارين (الوحدة والإنفصال) صفات الجذب، وطالما أصبح الخيار مفتوحاً أمام المواطن ليدلي بصوته فالإنفصال ليس مفروضاً عليه وكذلك الوحدة. هذا ما اكدته القيادات السياسية العليا في أحاديثها، بغض النظر عن التلويح بالإنفصال ككرت ضغط يهدف لتحقيق مكاسب سياسية، والتصريحات برغبة نسب تتجاوز ال90% من مواطني الجنوب في الإنفصال. لعل ما يؤكد هذا الزعم هو المقال الذي نشره موقع فشودة الإلكتروني (pachodo.org) حيث كتب جالبان سامسون أوياي أوين بتاريخ 13 مايو 2010 مقالاً بعنوان المواطن الجنوبي بين خياري الوحدة والإنفصال قدم له بمدخل مهم وهو يلقي باللوم على شريكي نيفاشا " رغم أن اتفاقية السلام جعل من أمر الوحدة الجاذبة هو الخيار التي ينبغي علي شريكي الاتفاقية الاهتمام بها إلا أن المواطن الجنوبي أصبح تائها بين الخيارين وهو ألان محتار من أمره فان احدي الخيارين بالنسبة له أحلاهما مر. فمنذ التوقيع علي الاتفاقية ظل الشريكان علي اختلاف دائم بينهما حيث تركزت جل طاقتيهما في حل الخلافات التي تنشا حينا بينهما فلم يلتفتا لما يواجه المواطن من مشاكل." مطالباً طرفي نيفاشا بالعمل الجاد فيما تبقى من فترة وإلى أن يحين وقت الإستفتاء من أجل الوحدة عبر خطوات عملية اقترحها في مقاله.

هذا ما يجعلني أتعامل بحذر مع الخاصية الرئيسية من خصائص الظاهرة الإجتماعية وهي الموضوعية، أي أنها ظاهرة عامة مستقلة بوجودها خارج شعور الفرد وذاته، أي تجاوزت الفردية والذاتية. فمن ناحية لا يعدو الإنفصال أكثر من تيار يرتفع وينخفض داخل المنظومات والأحزاب السياسية التي تمثل مواطني الجنوب، فقليلة جداً هي الأحزاب التي تبنت الإنفصال كهدف نهائي قاتلت أو دافعت عنه بشكل مطلق، ومن ناحية أخرى تلك الحرب التي خاضتها الحركة الشعبية ضد نفسها وضد الآخرين من اجل هزيمة الإنفصاليين داخلها، ولعل ما قاله د. جون للإنفصاليين بأن يكتفوا بتحرير جنوب السودان وليتركوا للوحدويين مواصلة كفاحهم من أجل تحرير السودان ما يقلل من إحتمال بلوغ الإنفصال مرحلة الظاهرة الإجتماعية وأنه أصبح ظاهرة عامة، وهذا يدعونا رغم الحذر للقول بأنه ما زال مجرد تفكير جزئي محصور ضمن الرغبة السياسية الجزئية.

الملاحظة الأهم هي تلك الدعوة التي لا تدل سوى على يأس سياسي وقصر نفس في التعاطي مع واقع لا يزال يتخلق ويحتاج لنضال أطول، ولكنه دون شك ليس يأساً إجتماعياً، والدعوة هي السعي الحثيث للوحدة بعد الإنفصال في ظل شروط أفضل. هذا ما ذهبت إليه تصريحات العديد من القيادات السياسية الجنوبية وحتى الشمالية، وهو ما أكده الدكتور فرنسيس دينق عبر ملاحظات في سمنار نظمته بعثة الأمم المتحدة في السودان في نوفمبر الماضي حول الوحدة والإنفصال "آفاق التوفيق بين تقرير المصير والوحدة في السودان" وهي ملاحظات إضافية للورقة المشتركة التي قدمها بالتعاون مع د. عبدالوهاب الأفندي حيث يؤكد " لا يمكن استبعاد احتمالات الوحدة من جديد في حالة ظهور سودان جديد في الشمال والجنوب." ويشير أيضاً إلى أنه "من الواضح أن انفصال الجنوب قد لا ينهي بالضرورة الصراعات في الجنوب ما لم تحل أزمة الهوية الوطنية في الشمال وما لم يقام نظام حكم عادل في الجنوب.وبالقدر نفسه، فإن آفاق الوحدة في البلاد لا تنتهي بالضرورة باستقلال الجنوب. "

ويذهب د. فرنسيس دينق إلى أكثر من ذلك " فإذا استمر الشمال والجنوب على حد سواء في مواجهة التحديات الداخلية في حال انفصال الجنوب، كما طرحت آنفاً؛ وإذا لم تنتف مقومات إعادة الوحدة إذا توافرت لها الظروف المناسبة، مثلما طرحت أيضاً؛ وفوق ذلك إذا كانت أشواق الوحدة غالبة، كما يبدو الحال، إذأً لابد من السعي الحثيث لجعل السلام الشامل والوحدة مطلباً ملحاً. وبالتالي لا يجب النظر للاستفتاء والانفصال المحتمل على أنهما نهاية المطاف. فالبحث عن الوئام والعلاقات المنتجة بين كافة مكونات أجزاء السودان المتعددة هو عملية قائمة أصلاً وستستمر كتحديات تواجه السودانيين في كل الجوانب في ظل سعي الأمة في البحث عن هوية جامعة وشعور مشترك بالهدف المشترك المتجذر في قدرهم المشترك."

الإتكاءة على هواجس ظلامات الماضي كمعامل ثابت في ظل عوامل متحركة، لم يك كافياً للتأسيس للدعوة للإنفصال. حتى الحرب التي استمرت طوال نصف قرن لم تستطع حسم الوضع لصالحها نهائياً، حتى بعد إعتراف النظام الحاكم منذ لقاء فرانكفوت في مطلع تسعينيات القرن الماض بممارسة مواطني الجنوب لحق تقرير المصير مروراً بتضمينه مواثيق مؤتمر القضايا المصيرية أسمرا 1995 وانتهاءاً بإلإقرار به فعلياً في إتفاقية السلام الشامل والدستور الانتقالي. ولم تحسم نهائياً لأنها لا زالت في إطار الرغبة السياسية وإن كانت كذلك فلا زال الوقت متوفراً للتعاطي السياسي مع مسبباتها وإزالتها بإرادة سياسية.

بالعودة إلى قراءة نصوص إتفاقية السلام الشامل بروح نظريات علم الإجتماع نجدها تؤسس لقيام دولة سودانية تسع الجميع، رغم إحتكار صياغة الرغبات والتطلعات الجمعية بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية كمنظومتين سياسيتين إدعتا إحتكارهما لمصير السودان، وهي جاءت بتلك الروح (النصوص) لأنهما لا يستطيعان تجاوز الواقع السياسي والاجتماعي، ولكنهما عند التطبيق تجاوزاه بالفعل. لذلك فهما مسئولان عن مصير البلاد ولا مهرب لهما من تحمل تلك المسئولية، وتظل ضغوط القوى السياسية الأخرى ومنظمات المجتمع المدني وكل القوى الاجتماعية مطلوبة وفاعلة من أجل الحفاظ على وحدة يتطلع إليها السودانيون في ظل وطن يسع الجميع. "فالبحث عن الوئام والعلاقات المنتجة بين كافة مكونات أجزاء السودان المتعددة هو عملية قائمة أصلاً وستستمر كتحديات تواجه السودانيين في كل الجوانب في ظل سعي الأمة في البحث عن هوية جامعة وشعور مشترك بالهدف المشترك المتجذر في قدرهم المشترك." أو كما قال د. فرنسيس دينق

• هذه المقالة إستفادت من بعض معلومات واردة في مقالة لحلمي شعراوي "المسألة السودانية: رؤية من الجنوب"



Source: www.tahalof.info


رأي ـ تعليق  



هل قرأت المقال اعلاه؟   
اكتب    
 
 
 
 
 
  
site created & hosted by