# # # #
   
 
 
[ 27.04.2010 ]
موقعنا داخل المجال العظيم ـ أمير بابكر عبدالله




مفارقات  تخصني أتوقف عندها، عقب إنتهاء ضجة الإنتخابات العامة (المضروبة) التي انتظمت البلاد وشغلت العباد، وجملة تلك المفارقات شملت غير (الفوز الكاسح) الذي أحرزه منسوبو المؤتمر الوطني على كافة المستويات الانتخابية في الشمال. فلا تكاد تفتح إحدى القنوات الفضائية حتى يأتيك بيان المفوضية بفوز رمز الشجر المطلق (ياخي ربنا بعظمته وجلاله أنزل أبونا آدم إلى الأرض ومعه إبليس ولم يترك لآدم الأرض وحده بالرغم من أنه جل جلاله القائل: إني جاعل في الأرض خليفة.)، وحين ترحمك بعض البرامج المتداخلة يطل عليك الشريط الإخباري بنبأ فوز (الشجرة) ولا شيء غير الشجرة.

تأتي المفارقات التي لازمتني أثناء ذلك حين أقلب مكتبتي عادة لأذهب بعض الضجر بالقراءة، وغير مكتبتي الورقية العادية يسر لي عصر التكنولوجيا والحاسوب أن امتلك مكتبة إلكترونية أعاودها من حين لآخر، أغنتني عن التجول بين أرفف المكتبات كما عفتني من أسعار الكتب التي صار جيبي لا يطيقها، وقد كنت من أكثر المولعين بشراء الكتب في عصر المعقول. في خضم كل ذلك أستوقفني عنوان لكتاب كنت قرأته سابقاً على عجل، من تأليف نعوم تشومسكي اليهودي الأمريكي صاحب المواقف الفاضحة للسياسة الأمريكية وإسمه "ماذا يريد العم سام؟"، وهو سؤال عريض يحتاج لمجلدات ضخمة للإجابة عليه، وحري بنا نحن أن نطرحه.

قبل الخوض في بحر ذلك الكتاب الذي يتناول ملامح السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، وما لفت نظري فيه من مفارقات ماثلة الآن، فضلت أن أقرأ قليلاً في أشعار المصري العبقري أمل دنقل، عليه الرحمة، المنشورة في مجموعته الكاملة. لتستوقفني كلمات سبارتاكوس الأخيرة كما استوقفتني من قبل، ولكن هذه المرة بعيون وقراءة مختلفة بطعم الإنتخابات ورمز (الشجرة) خاصة عندما وصلت إلى المقطع الذي يقول فيه:

يا قاتلي: إني صفحتُ عنك ..
في اللحظة التي استرحتَ بعدها مني:
استرحت منك!
لكنني أوصيك إن تشأ شنق الجميع
أن ترحم الشجر!
لا تقطع الجذوع كي تنصبها مشانقاً
لا تقطع الجذوع
فربما ياتي الربيع
"والعام عام جوع"
فلن تشم في الفروع .. نكهة الثمر!

يبدأ كتاب نعوم تشومسكي "ماذا يريد العام سام؟" الذي ترجمه عادل المعلم، وقدم له الأستاذ محمد حسنين هيكل، بالأهداف الرئيسية للسياسة الخارجية الأمريكية. ويرى أن الحرب العالمية الثانية مثلت علامة فارقة في تلك السياسة، وان مخططي السياسة الخارجية إستوعبوا انهم سيخروجون من الحرب العالمية قوة عظمى وحيدة وفريدة، وخططوا بحرص لتشكيل عالم ما بعد الحرب. أهم ملامحه تقزيم الاتحاد السوفيتي ونخر نظامه من الداخل (النتائج واضحة وإن استغرقت قرابة النصف قرن)، والأهم ما يخص العالم الثالث وهو (محاربة الهرطقة التي تنتشر في تلك البلدان والتي مفادها "أن على الحكومة مسئولية مباشرة فيما يخص رفاهية الشعب")، وتفعيل دورها الخدمي وهو (إكمال الإقتصاديات الصناعية للغرب).

ويذهب مؤلف نعوم تشومسكي إلى أن مجموعات البحث في وزارة الخارجية ولجنة العلاقات الخارجية، لعالم ما بعد الحرب، على أساس ما أسموه "المجال العظيم" الذي عليه الخضوع لمتطلبات الاقتصاد الأمريكي الذي يشمل كل العالم إن أمكن ذلك وبقدر ما تسمح به الظروف، وأن لكل مكان دوره المخطط له. وجاء كل ذلك تطويراً لمبدأ الرئيس مونرو في القرن التاسع عشر الذي نادى بضمان استقلال كلِّ دول نصف الكرة الغربي ضد التدخل الأوروبي بغرض اضطهادهم، أو التّدخّل في تقرير مصيرهم. ويشير مبدأ مونرو أيضاً إلى أن الأوروبيين الأمريكييّن لايجوز اعتبارهم رعايا مستعمرات لأي قُوى أوروبية في المستقبل.

عندما بلغت الجزء الخاص بإلتزام السياسية الخارجية الأمريكية بالديمقراطية كإحدى أهدافها وقرأت أن التهديد الرئيسي لنظام العالم الجديد يأتي من الوطنيين في العالم الثالث ومن الأنظمة الوطنية التي تستجيب للطلبات الشعبية بخصوص تحسين المستويات المعيشية وتلبية الحاجات المحلية الضرورية، وبالتالي يتحتم عزلهم وتنصيب حكومات تفضل الإستثمار برأسمال خاص محلي أو أجنبي وتوجه الإنتاج للتصدير وتكفل تصدير الأرباح إلى الخارج، أدركت لماذا يستمر المؤتمر الوطني حتى الآن بمباركة أمريكية رغم الغبار الكثيف الذي يحاولون به تغطية العلاقة المريبة بينهما، وكيف تسقى تلك الشجرة من وراء ظهر القوى السياسية، التي مرة تنحاز للمبعوث الأمريكي غريشن واخرى تلعن سلسفيل كارتر ومركزه، ثم تعود لتتعلق بأمل أن الأمريكان يقولون أنها إنتخابات مزورة وشابها ما شابها من تلاعب، ليصابوا بالصدمة عندما يستدرك الأمريكان القول بأنهم رغم ذلك سيعترفون بما ستفرزه نتائجها ويتعاملون معه.

يقول تشومسكي في كتابه ماذا يريد العم سام؟ إن المعهد الملكي للشئون الدولية في لندن نشر دراسة عن نظام العلاقات الدولية الأمريكية مؤداها أنه عندما تتعرض حقوق المستثمرين الأمريكيين للتهديد فعلى الديمقراطية أن ترحل، ولا بأس أن يحل محلها حكام القتل والتعذيب، والفكرة هي سحق الوطنية التي تدعو للإستقلال، والتي تجلب الديمقراطية الحقيقية. اكبر من استفهام تشومسكي ينتصب إستفهام هنا والولايات الأمريكية واحدة من رعاة السلام في كل إتفاقياته، بل واكثرها حرصاً على متابعة تنفيذها بتخصيص مبعوث لهذا الشأن، هل هناك جزرة تحت الطاولة، حيث ظلت العصاة مرفوعة منذ إنقلاب 1989؟ لطالما كنت مؤمناً بأن الأمريكان يريدون نظاماً يحقق مصالحهم وليس في الأمكان أحسن مما كان، وان كل ذلك الغبار الكثيف منذ هتافات (امريكيا روسيا قد دنا عذابها) لا يجب أن يخدعنا.

وكأنما يطبق المؤتمر الوطني نظرية السياسة الأمريكية حرفياً كما جاءت في كتاب تشومسكي وهو يتحدث عن إنتخابات نيكارغوا عقب إتفاقية السلام في أغسطس 1987، حيث التزم الساندنيستا بالإنتخابات والسماح بالمراقبة الدولية، وعندما بدأت الحملات الانتخابية، أعلنت الولايات المتحدة أن المقاطعة الاقتصادية التي تخنق البلاد ستستمر، وعمل المؤتمر الوطني على زيادة الضغط الإقتصادي منذ إنقلابه على الشعب وبالتالي كل القوى المعارضة فظهر جلياً قدرتها على إدارة ودعم حملاتها الانتخابية. كما اعلنت الولايات المتحدة أن نشاط الكونترا ضد حكومة الساندنيستا لن يتوقف إذا ما فازت في الانتخابات فيما وضحت تهديدات المؤتمر الوطني في حال فوز إي من القوى السياسية الأخرى بالانتخابات. وكما يقول تشومسكي لا يعتبر أحد أن إجراء إنتخابات تحت وطأة الحرب الاقتصادية وإرهاب الكونترا هو إجراء انتخابات حرة ونزيهة، وهو ما حدث في إنتخاباتنا الحالية، عانت القوى السياسية من وطأة الحرب الاقتصادية وإرهاب الكونترا طويلاً، حتى أثناء فترة الحملة الانتخابية وهامش الحريات المنتزع حاولت أن تضيق مساحته بأساليب مختلفة.

الآن وقد بلغت نسبة التصويت في الانتخابات السودانية حوالي 60% (أكثر أو أقل) كما قالت المفوضية، وان المسجلين بلغوا 16 مليون بنسبة تسجيل بلغت 80% من الذين يحق لهم التسجيل، وبلغة الحساب أن الذين يحق لهم التسجيل 20 مليوناً. لنعتبر أن مرشح المؤتمر الوطني فاز بنسبة مائة في المائة يكون قد حاز على 9 مليون 360 ألف صوت أي أقل من 50% من الذين يحق لهم التسجيل (هذا غير المهاجرين الذين استبعدوا من التسجيل لأنهم لا يملكون أوراقا)، فإذا علمنا أن الذين لم يسجلوا إما زهداً أو يأساً مما لا جدوى منه، وأن المؤتمر الوطني على الأقل سجل كل من سيصوت له فأن ذلك يحتاج منهم إلى وقفة. هذا حسب رغبة المفوضية، لكن حسب متابعاتي إعلان الفائزين في الدوائر الجغرافية القومية فإن متوسط عدد الذين ادلوا بأصواتهم فيها حوالي 30 ألفاً، وحيث انها تبلغ 270 دائرة فإن عدد الذين أدلوا بأصواتهم يبلغ 8 مليون و100 ألف مواطن، وإذا خصمنا منها عدد الأصوات التي أخطأت طريقها لمرشحين آخرين دون قصد فالعاقبة عندكم في المسرات. وجدت تلك المفارقة عندما قرأت أن الرئيس كلنتون حصل على 15% من أصوات الشعب الأمريكي في انتخابات 1996.
ولن تجد القوى المعارضة التي قاطعت لتعزي نفسها سوى أن تكتفي بقول أمل دنقل الذي جاء في قصيدته البكاء بين يدي زرقاء اليمامة التي رأت شجراً يسير:

" .. دون الماء رأسك يا حسين .."
وبعدها يمتلكون، يضاجعون أرامل الشهداء
ولا يتورعون، يؤذنون الفجر .. لم يتطهروا من رجسهم
فالحق مات!



Source: www.tahalof.info


رأي ـ تعليق  



هل قرأت المقال اعلاه؟   
اكتب    
 
 
 
 
 
  
site created & hosted by