# # # #
   
 
 
[ 30.03.2010 ]
إنتخبوا السيرة العطرة ـ أمير بابكر عبدالله




واحدة من البيوت العامرة التي كنت أرتادها هو منزل المرحوم محمد صالح إبراهيم في منطقة الشجرة بالخرطوم، وسبب معرفتي بهذه العائلة هو إبنهم الدكتور عصام .. كان صديقي ودفعتي، ولا زالت بقايا دمعة معلقة في وجداني ولا تفارق مقلتي منذ أن غادرنا قبل سنوات إلى الدار الآخرة بعد سيرة عطرة سجلها في كتاب تاريخه، حيث شهدت له بذلك كل المستشفيات التي عمل بها خاصة في الولاية الشمالية وخلد إسمه بين مواطنيها كشخصية خرافية وهبها الله لهم.

ليست تلك السيرة بغريبة على عصام الإنسان، وهو الذي تربى في كنف والده ووالدته اللذان أرضعاه قبل لبن الأم تلك القيم النبيلة التي ظل ينثرها على من حوله بلا من ولا أذى. فقد كان والده عليه رحمة الله لا يستنكف من خدمة أهله، بل كانت داره العامرة محطة لكل العابرين وحتى المقيمين، وظل وفياً لوطنه الكبير ولأهله في مناطق السكوت عاملاً من أجل المصلحة العامة ومن أجل أن ترتقي منطقته الأصل بمكانها وسكانها.

في الإنتخابات التي أعقبت الحكم الانتقالي الذي أفرزته إنتفاضة أبريل 1985، وجرت في العام الذي تلاه، ترشح العم المرحوم محمد صالح إبراهيم مستقلاً في دائرة حلفا السكوت، وهو المعروف بميوله اليسارية. وفاز فيها بجدارة أهلتها له تلك السيرة الناصعة في خدمة بلده ومواطنيه. لكن الذين لا يعرفون مجريات ما قبل تلك الإنتخابات وملابسات فوز عمنا محمد صالح، يجهلون بعض الطرائف والمفارقات التي حدثت أثناء تلك الفترة. ولعل من أبرزها تلك الحركة الماكوكية لعناصر وقيادات الجبهة الإسلامية والقومية حينها، ومحاولاتهم المستميتة للفوز بتلك الدائرة.

كعادة أهل الإسلام السياسي عبر التاريخ، حاول أنصار الجبهة الإسلامية القومية ضرب محمد صالح في مقتل، وهم يحرضون عليه أهل المنطقة بإعتباره شيوعياً وكافراً ولا يصح انتخابه لتمثيلهم بل عليهم إنتخاب (القوي الأمين)، ولأن المنطقة وأهلها يعرفون من هو محمد صالح إبراهيم كانوا يشيحون بوجوههم عنهم، و(يسدون دي بي طينة ودي بي عجينة). عندما أعيتهم الحيل في كسب ودهم لجأوا إلى الشيخ شريف شيخ السكوت المعروف بورعه وتدينه، وانتحوا به جانباً وقالوا له في المرشح المستقل ما لم يقله مالك في الخمر، وكانت مفاجأتهم أن شيخ السكوت الرجل الورع التقي العارف بأصول دينه والمدرك لغايات من يتحدثون معه، كانت المفاجأة أن إكتفى بهز رأسه ثم قال لهم "محمد صالح إبراهيم ده إبننا، ونحن عايزين ننتخبوا علشان يمشي البرلمان، وليس لربنا". وأسقط في يدهم، وفاز المرشح محمد صالح إبراهيم عن دائرة حلفا السكوت، ليقف غصة في حلق الجبهة الإسلامية القومية أثناء دورة برلمان الديمقراطية الثالثة .

في التاريخ البعيد ظلت منطقة النوبة مدخلاً للأديان السماوية إلى جنوبها، فقد إعتنق أهلها اليهودية ثم المسيحية دون حروب، وعندما جاء عبدالله بن أبي السرح غازياً وحاملاً الإسلام على حد السيوف وأسنة الرماح واجهه أهلنا النوبة بشراسة واعتداد بالنفس، حتى إرتد الجيش على أعقابه لتعقد (إتفاقية البقط) الشهيرة وقد أطلقوا على من واجهوهم (رماة الحدق). ليدخل بعدها الإسلام في سلام إلى أرض النوبة وبدون قتال ويعتنقه كل أبناء المنطقة خلال فترة لم تتجاوز المائة سنة، ويقول بعض المؤرخين أنه لم يحدث أن إعتنق كل أبناء منطقة ما الإسلام خلال هذه الفترة الوجيزة من عمر التاريخ، كما حدث في منطقة النوبة.

لعل ما يجري أمامنا الآن في إطار الحملات الإنتخابية لا يختلف كثيراً عن ذلك المنهج اللاعقلاني، المنهج الذي يستجدي العاطفة والدين ولا يخاطب الاحتياجات الحقيقية للمواطن، وأحياناً يرفع السيف والعصا في وجه المنافسين كما حدث في مناطق عديدة ليس آخرها الدبة ولا مناطق شمال شرق كسلا.

بالرغم من الضعف البيِّن للقوى المعارضة في جوانب عديدة قائم أكثرها على قلة الدعم المالي، وبعضها على المواقف الغير واضحة من العملية الانتخابية برمتها، والتردد الكبير بين المقاطعة والتأجيل وخوض الانتخابات، الشيء الذي هز صورتها كثيراً أمام الناخبين، رغم ذلك نجد الطرف الآخر المتمتع بكل الإمتيازات الخاصة والعامة يكاد ينكفيء على وجهه، وهو يخوض سباق الإنتخابات، ويلهث وراء الفوز (وهو حق مشروع) ولكن ليس بشتى السبل.

الراصد لهذا الهلع الإنتخابي أو (الإنتخابوفوبيا) يجده بدأ منذ إقرار الإنتخابات كوسيلة للتحول الديمقراطي في إتفاقية نيفاشا كإحدى شروط الفترة الانتقالية، ومحاولات تعطيلها بشتى السبل (المفوضيات، القوانين وغيرها) إلى حين إعداد كل لوازمها المشروعة وغير المشروعة. وقد نجحوا في ذلك بدرجة الإمتياز. فالإنتخابات المقرر لها يوليو 2009 أجلت لأبريل 2010، ثم التعداد السكاني المشكوك فيه وتوزيع الدوائر الجغرافية المترتب عليه، والذي إضطرهم إلى الإعتراف عملياً به بالموافقة على تخصيص أربعين مقعداً نيابياً للجنوب وتأجيل إنتخابات جنوب كردفان على مستواها التشريعي. ثم يجيء الحديث عن مرحلة السجل الانتخابي وما ادراك ما السجل الإنتخابي، ولكن حوالي ست عشرة مليوناً سجلوا أسماءهم حسب التصريحات الرسمية.

دخول مراحل الترشيح والحملات الإنتخابية كشف العديد من التناقضات (كانت مستورة)، غير الإنقسامات والإنشطارات العديدة التي هزت أركان الحزب الحاكم، يحدثنا من ظل في الحكم عشرين عاماً بأنه يسعى للتغيير (هذا ما قرأته في إحدى الملصقات)، التغيير من ماذا وإلى ماذا؟ هذا ذكرني بنكتة تحكى عن أحد المطربين المشهورين حين جاء ليقيم مناسبة زواج في إحدى المدن. وبعد عشاء (الفنانين) الجماعة أتحفوه ب(كفتيرة شاي بلبن) فصعد إلى المنصة وأمسك بالمايكرفون ليغني فاصلاً كاملاً من الأغاني الوطنية، ويعاود الكرة مرة أخرى في الفاصل الثاني لما تكرر (الشاي بلبن)، فصاح فيه أحد المنتشين "ياخي ما تغير شوية" فنظر إليه ملياً في حسد وقال "طيب ما تغيروا الجوَّة".

ومن الطرائف المبكية أن مرشح الحزب الكبير خاطب جمعاً من المفصولين تعسفياً من إحدى المؤسسات القومية (زمان)، وقدم مقارنة بين المؤسسة في عهده والمؤسسة زمان، وطبعاً المؤسسة زمان حسب قوله كانت وكانت وكانت، أما المؤسسة الآن فهي كالبدر في ليلة تمامه، الطرفة قائمة على التناقض والمفارقة كما يقول أهل العلم، فالجمع المخاطب هو المفصولين من المؤسسة وهو من وقع على قرار فصلهم، والذي يرأس حملة ترشحه كان قائداً لمرحلة ما إبان تلك الفترة للمؤسسة بل وقائداً عاماً.

إن المواطن كيس وفطن يراقب هذا وذاك بوعي شديد، ويعلم أنه عندما يدخل إلى قاعة التصويت سيقف داخل ستارة تحميه من الناظرة ليدلي بصوته وأمامه ربه وضميره لينتخب من يراه مناسباً. وبمناسبة الستارة القصيرة وأيام النميري كان الإستفتاء على ولايته بلا أو نعم. وكانت غرفة التصويت تحتوي على صندوقين فقط، واحد مكتب عليه نعم في أقصي اليمين والآخر مكتوب عليه لا في أقصى اليسار والمسافة بينهما كبيرة، ويسترهما حجاب قصير يكشف حركة من يدلي بصوته وفي أي الصندوقين بوضوح للقائمين على أمر الإستفتاء. وكان وقتها سيان أن تدلي بصوتك في أي الصندوقين فكل الصناديق نعم.



Source: www.tahalof.info


رأي ـ تعليق  



هل قرأت المقال اعلاه؟   
اكتب    
 
 
 
 
 
  
site created & hosted by