# # # #
   
 
 
[ 10.02.2010 ]
دَبي في الخرطوم.. ما بين ثنايا خيوط المنديل الأبيض..!!


تحليل ـ ماهر أبوجوخ: المنديل الابيض الذي لوح به الرئيس التشادي ادريس دبي قبل افتتاح جلسة المباحثات المشتركة بين الجانبين السوداني والتشادي نهار أمس الأول بالخرطوم تأكيداً على سعيه لتحقيق السلام بين البلدين حظي بتعليق جل الصحف السودانية الصادرة امس.

وربما مرر دبي شريط ذكريات ابان آخر زيارة له للخرطوم في ديسمبر 2005م وما تلاها من احداث افضت لدخول علاقات البلدين النفق المظلم حتى وصلت حجم الاتهامات بينهما مساندة معارضتهما المسلحة حينما دخلت المعارضة التشادية انجمينا مرتين في عامي 2006م و2008م والسودانية أم درمان في مايو 2008م.

فبعد تلك الزيارة تغيرت المواقع والمواقف بين البلدين، ويومها سعى دبي للمرة الأخيرة لاقناع الحكومة السودانية وقيادتها بضرورة تغيير استراتجيتهم مع ملف دارفور وتغليب الخيارات السلمية بدلاً عن العسكرية لعدم تطوير النزاع ولتقليل الضغوط الداخلية التي يتعرض لها من قبل مجموعات نافذة بأركان حكومته غادر بعدها الخرطوم، التي لم يزرها مجدداً إلا بعد اكثر من خمس سنوات يوم أمس الأول. وخلاصة المشهد أن منهج (الحسم العسكري) لدحر المجموعات المسلحة وتطبيق سياسة (سد الأذن من الصرخات) استهداءً بنموذج اليمن في عام 1994م لكسر شوكة الانفصاليين جاء بنتيجة عكسية للتوقعات التي ربما راهنت على سطوة دبي وإمساكه بزمام الأمور التي ستمكنه من تغليب وفرض وجهة نظره المساندة للتحالف مع الحكومة السودانية التي منحت حكمه استقراراً كبيراً، سيما أن البوابة الشرقية لتشاد المتاخمة للسودان شهدت سقوط انظمة وصعودها وآخرها نظام دبي الذي تسلم حكم البلاد في اواخر عام 1990م واسقط حكم الرئيس السابق حسين هبري انطلاقاً من السودان.

عكس التوقعات

واضطر دبي للانحاء لعاصفة التيار المؤيد والداعم والمساند للحركات المسلحة بدارفور الذي تربطه اواصر القربى والقبيلة بنظرائهم في تشاد، وما زاد من وقع وحجم ذلك التعاطف القصص والروايات التي تناقلها اللاجئون الفارون من الحروب والمواجهات لداخل تشاد حول الفظاعات والانتهاكات التي تعرضوا لها.

قاد هذا الأمر لتحول الكبير في الموقف التشادي الرسمي لتحويل الجبهة الغربية للسودان التي مثلت منذ تقلد دبي للسلطة البوابة المحروسة بالتعاون المشترك بين البلدين، وهو ما اسهم بدوره في افشال استراتيجية المعارضة السودانية بنقل الصراع المسلح لجبهة دارفور من خلال فصيل التحالف الفيدرالي السوداني بقيادة كل من أحمد دريج وشريف حرير.

السنوات الماضية اثبتت أن التحديات الأمنية والسياسية التي نتجت عن تلك الجبهة الغربية كان اكبر من الجبهات السابقة لعل ابرزها وصول العمليات العسكرية حتي العاصمة السودانية بمحاولة حركة العدل والمساواة في مايو 2008م الاستيلاء على العاصمة السودانية انطلاقاً من قواعدها داخل الاراضي التشادية عبر عملية اسمتها (الذراع الطويل) بالدخول لمدينة أم درمان كثاني محاولة منذ استقلال السودان للسيطرة على الخرطوم بقوات من خارج السودان، حيث كانت الأولى محاولة الجبهة الوطنية في يوليو 1976م.

لكن يبقى الاثر الاكبر للصراع بدارفور هو الآثار الانسانية والتي ادت لطرح القضية بأروقة مجلس الأمن الدولي الذي احالها بدوره للمحكمة الجنائية الدولية والتي اصدرت امر توقيف في مواجهة رئيس الجمهورية المشير عمر البشير بتهمة ارتكاب جرائم حرب، فيما تنظر الدائرة الابتدائية بالمحكمة في الاتهام الخاص بارتكاب ابادة جماعية بعد الاستئناف الذي تقدم به المدعي العام للمحكمة لويس مورينو اوكامبو خلال الاسبوع الماضي، وهو ما جعل البشير أول رئيس دولة توجه له اتهامات بارتكاب جرائم حرب خلال حكمه.

دعوة لوقف العدائيات

وأكد دبي خلال خطابه الذي وجهه للشعب السوداني من قاعة الصداقة بحضور القيادات ومنظمات المجتمع المدني وممثلي البعثات الدبلوماسية بقاعة الصداقة اهتمامه بحل قضية دارفور كما وجه نداء عاجلاً لحاملي السلاح بدارفور لوقف العدائيات. واعلن تأييد بلاده لمنبر الدوحة لحل ازمة دارفور واعتبره المنبر الامثل لحل قضية دارفور وان بلاده تقف مع تلك الجهود دون تحفظ. واعلن عن اتفاقه والبشير بأن مشكلة دارفور تحل عبر الحوار، ودعا كل الاطراف المعنية للعمل معا لحل المشكلة. كما ناشد الحكومة بالسودان للتحلي بالمرونة وتشجيع عودة حاملي السلاح للحوار والوطن.

الجانب المهم في رسالة دبي التي اطلقها امس بقاعة الصداقة مطالبته للحركات المسلحة بوقف العدائيات ودعمه المعنوي الكبير لمباحثات الدوحة بين الحكومة والحركات المسلحة التي لا تزال تحاول اكمال مساعي وحدتها تنظيمياً في جسم واحد وسياسيا بالمشاركة في المباحثات بموقف تفاوضي موحد حيال مختلف القضايا يساعد في تحقيق سلام شامل في دارفور يضم كل الاطراف مما يؤدي عملياً لانهاء النزاع المسلح بالاقليم بين الحكومة والحركات المسلحة بالاقليم.

(الجنائية) أم (الهجين)؟!

وحينما ترتب بقية الأوراق الخاصة بالتسوية السياسية ونتعاطى مع توابعها كحزمة واحدة نصل إلى أن الهدف النهائي المرحلي هو انهاء الصراع المسلح بدارفور الذي تعتبره اوساط إقليمية ودولية (مترابطا) مع الصراع في تشاد الذي يغذيه ويزيد من فتيل إشعاله الصراع بدارفور حينما تقوم الحكومتان التشادية والسودانية بدعم المعارضة المسلحة للطرف الثاني في إطار استراتيجية الاستنزاف، مع ضرورة الاشارة لمعطي اساسي وجوهري وهو التأثيرات السلبية لصراع دارفور على الحكومة السودانية وجعلها تحت ضغط اكبر من خلال الاتهامات التي وجهتها المحكمة الجنائية ضد الرئيس البشير، ولذلك فإن مساعي الوصول لاتفاق سلام في ظل عامل الضغط المفروض على الحكومة سيجعلها تجتهد للوصول لهذا الاتفاق وفي ذات الوقت فإن المجتمع الدولي استفاد من تجربة ابوجا التي اعتبر فيها أن السلام سيحل بفرضها بالقوة على الحركات التي رفضت التوقيع ولذلك يعمل على الوصول لاتفاق بمشاركة كل الفصائل بعد توحيدها.

وبذلك تصبح الخطوة التي تعقب التوصل للتسوية السياسية وانهاء الصراع المسلح بالمنطقة في دارفور ـ وبالتزامن ايضاً في تشاد ـ تكون الجزئية الأولى ـ السلام ـ تكون قد اكتملت ويتم الانتقال بعدها للمرحلة التالية (العدالة) والتي تعني محاكمة المتهمين المتورطين بارتكاب تجاوزات في الحرب التي اندلعت بدارفور منذ 2003م وهنا ستجد الحكومة السودانية ودون حائط تسند عليه ظهرها، فهي تتعاطى الآن مع هذه المسألة ـ تحقيق العدالة ـ باعتبار أن الاولوية التوصل لاتفاق سلام ينهي معاناة المواطنين، وهو ما تحقق بالتوصل للسلام ولجعله مستداماً فيجب اكماله بصنوه المتمثل في العدالة.

عند تحقيق هذا الأمر ـ السلام ـ لن يكون امام الحكومة السودانية إلا الاختيار بين خيارين متاحين امامها لمعالجة ملف (العدالة) اولهما التعاطي مع هذا الملف من خلال المحكمة الجنائية الدولية وهو حل اشبه بـ (تجرع السم)، ويعتبر السودان ضمن ثالث ثلاثة سحبوا توقيعهم على النظام الاساسي للمحكمة الجنائية وهي المرحلة التي تسبق المصادقة ـ والدولتان الاخريان هما الولايات المتحدة الامريكية واسرئيل ـ ويتمسك السودان بأن المحكمة الجنائية بدون ولاية قانونية باعتباره ليس من بين الدول الاعضاء فيها.. أما ثانيهما فهو تنفيذ توصيات لجنة حكماء أفريقيا برئاسة الرئيس الجنوب إفريقي ثامبو امبيكي الداعي لتكوين (محكمة هجين)، ويبدو هنا أن الخيار الثاني هو الأقرب، فالوفد الحكومي ابان اجتماعات مجلس السلم والامن التابع للاتحاد الإفريقي في ابوجا برئاسة نائب رئيس الجمهورية علي عثمان محمد طه اكد قبوله بتلك التوصيات (مع بعض التوضيحات)، وتلك التوضيحات قد تساعد في منح بعض الوقت ـ إذ قصد منها المناورة وكسب مساحات زمنية ـ لكنها في خاتمة المطاف ستكون خصماً على جدية الحكومة عموماً وحزب المؤتمر الوطني على وجه الخصوص حينما يتم التوصل للنقاط النهائية الموضحة للمهمة والتي لن تحتوى على إي استثناءات ووقتها سيجد "الوطني" نفسه امام خيار واحد لا مفر منه وهو (التنفيذ).

أبعد من المنديل

تلويح دبي بالمنديل الابيض في فاتحة جلسات المباحثات المشتركة بين الطرفين لا يعني أن انجمينا تراجعت عن موقفها المساند والداعم للمحكمة الجنائية الدولية كما تلاحظ إغفاله لقضية الجنائية الدولية أو تحقيق العدالة والارجح بانه تعمد هذا الأمر حتي لا يحرج نفسه أو مضيفيه وليتحاشى أي توتر في العلاقات بين البلدين قبل الاحتفال بترميمها.

والمعروف أن تشاد تطالب بمحاكمة رئيسها السابق حسين هبري بسبب تجاوزات ضد الانسانية ارتكبها ابان سنوات حكمه، وهذا المنطق تمسك به التشاديون عند اعتراضهم على مساعي الزعيم الليبي معمر القذافي الداعية لإنسحاب الأفارقة من المحكمة الجنائية احتجاجاً على توجيهها الاتهامات للبشير، حينما اوضحوا أنهم يطالبون بمحاكمة رئيس سابق لبلادهم بتهمة ارتكاب تجاوزات في حق شعبهم وبالتالي لا يمكنهم بشكل اخلاقي الانسحاب من محكمة ساند الافارقة اقامتها وإنشاءها لايقاف انتهاكات الزعماء ضد شعوبهم، فكيف سيستقيم انسحابهم من محكمة دولية بسبب مطالبتها بمحاكمة رئيس متهم بإرتكاب جرائم ضد شعبه ويطالبون في ذات الوقت بمحاكمة هبري؟.

تبدو الحجة التشادية الداعمة للجنائية متماسكة، ولكنها في نفس الوقت مستندة بقوة على الموقف الفرنسي المرتبط بشكل وثيق مع انجمينا، ويكفي للدلالة على ذلك العامل الحاسم الذي لعبته باريس في صد قوات المعارضة التشادية حينما شارفت على اكتمال احتلالها للعاصمة التشادية انجمينا في عام 2006م و2008م، فالموقف الفرنسي والاوربي المساند للمحكمة الجنائية الدولية معروف وهو احد العناصر الرئيسية المساند لها، وبرز هذا الدور الاوربي بشكل كبير بإحباط المسعى الإفريقي بالخروج الجماعي من المحكمة الجنائية.

وحينما اصدرت قمة الاتحاد الإفريقي التي عقدت بسرت في يوليو الماضي قراراً بعدم التعاون مع المحكمة الجنائية جاء الرد من داخل القارة الإفريقية بعد ايام من تلك القمة حينما اعلن وزير الخارجية البوتسواني بعد ايام من صدور القرار بأن بلاده ستعتقل البشير إذا وصل بلاده ايفاءً بإلتزاماتها تجاه المحكمة الجنائية، وصحيح أن البعض اشار لعدم اعتزام البشير زيارة بوتسونا في ذلك الوقت أو مستقبلاً ولكن الهدف من ذلك التصريح هو فتح ثغرات في القرار الإفريقي وإرسال رسائل للمجتمع الدولي بأنها (مجرد كلمات محبوسة بين السطور لا مكان لها عند التنفيذ على أرض الواقع).

... ولذلك سيبقى السؤال الذي يتعمق في ثنايا الخيوط البيضاء لمنديل دبي بالخرطوم هو مقدار ترحيبه الفعلي بزيارة البشير لإنجمينا استجابة لدعوته برد الزيارة دون ملاحقته بشبح التسليم للجنائية، أم سينتظر حتى الوصول للجسر ليفكر في كيفية عبوره حينما يتحقق (السلام) ويحين اوان تحقيق (العدالة)؟



Source: www.tahalof.info


رأي ـ تعليق  



هل قرأت المقال اعلاه؟   
اكتب    
 
 
 
 
 
  
site created & hosted by