# # # #
   
 
 
[ 14.11.2009 ]
سلسلة الرائد يصدق أهله.. رفقاً بالشعب السوداني: فلسفة التعليم في عهد الإنقاذ - 1 - د. عثمان إبراهيم عثمان*




أبان وزير التعليم العام في مؤتمره الصحفي لإعلان نتيجة امتحانات الشهادة السودانية لهذا العام: أن التدني الذي شهدته بعض المواد التي تحتاج  للتجريب مرده ضيق ذات اليد بالوزارة، والتي قد تكون قد ملت الطلب لدي الحكومة فآثرت الشكوى لدي الشعب، عله يشفع لها هذا الإخفاق. ما نود أن نطرقه في هذه العجالة هو: أن فشل الحكومة في الإيفاء بمتطلبات العملية التعليمية لم يكن جديداً، ولكنه كان عملاً منهجياً للإنقاذ منذ انقلابها علي السلطة الشرعية في الثلاثين من يونيو 1989م.

لقد بنيت فلسفة التعليم في عهد الإنقاذ على: الفكر الأحادي الاقصائي، المستمد من المشروع الإسلاموي للجبهة الإسلامية القومية. وهو مشروع يقوم على الحفظ، والتلقين، والتشرب في معسكرات الخدمة الإلزامية. وكذر للرماد في العيون شملت الأهداف الإستراتيجية للتعليم بهذه الفلسفة جوانب أخرى تقليدية المنحى، أو إنشائية التعبير، أو عاطفية المقصد، مثل: مضاعفة استيعاب الطلاب فوراً، وإلغاء نظام المجموع التنافسي، واستبداله بالنسبة المئوية، والتوسع في إنشاء الجامعات، وإنفاذ برنامج التعريب الذي أفرز مستويات أكاديمية متدنية؛ دعت بريطانيا، ودول الخليج للتحدث صراحة بتدني مخرجاته، في سابقة غير معهودة . أرادت الإنقاذ إنفاذ كل ذلك بكلفة مؤجلة، بغرض ضرب الحركة الطلابية في مقتل، خاصة: وأنها قلب الأمة النابض. المستهدف الآخر هو: جامعة الخرطوم قلعة الحرية، والديمقراطية على مر الأزمان.

قد يكون من العسير العودة مجدداً إلي الجامعة ذات التميز، والريادة. فمثلما اختفت المدرسة الابتدائية المتميزة، التي تفسح حيزاً لتدريس الفنون، وتشريح الزهرة، والمدرسة الثانوية ذات المعامل الثلاثة،  وصالات الفنون، ومعمل التصوير، وقاعة الموسيقى، وميادين التربية الرياضية، وأندية الجغرافيا،   والشطرنج، اختفت أيضاً الجامعة المتميزة. يعتبر ما يحدث الآن في منظومتنا التعليمية  تطوراً متسقاً و متناغماً مع موجة الحفظ؛ والتلقين التي ابتلى بها كلا نظامي التعليم العام، والعالي. فالكلفة هنا ضئيلة، والمردود بائن، لأن الغاية في الكم وليس الكيف. فالإمكانات الشحيحة التي كانت تصرف على التعليم قبل 1989م هي نفسها – إن لم تكن قد تناقصت قليلاً – تصرف اليوم على أعداد الطلاب التي تضاعفت هندسياً. فبدلاً عن خريج المدرسة الثانوية ذي المعرفة المجودة، القادر على التحليل، والاستنباط؛ ترفدنا  المدرسة الآن بخريج حاذق للحفظ، ويعرف كيف يعظم عائد درجات الامتحان، وليس المعرفة؛ بمعنى آخر في حاجة ماسة للتعليم علي الدوام، وغير قابل للتعلم الذاتي.

إن الطريق إلي جامعة التميز العلمي(لا الجامعة الصفوية )يمر عبر اعتماد فلسفة جديدة للتعليم العام ينعش روح التفكير، والمشاهدة، والاستنتاج. بالتأكيد يتطلب ذلك دعماً مادياً، وبشرياً متواصلاً لجمهرة الطلاب، الذين يتم اختيارهم بمعيار التميز الأكاديمي فقط، ذلك عبر آلية فاعلة تجبر القادر منهم على دفع استحقاق تعليمه، وتدعم غير القادر حتى في إعاشته، وسكنه.  وأن يتم ذلك وفق خطط الدولة الإستراتيجية في تلبية الحاجات الفعلية للتنمية، وسوق العمل. هنا يمكن التحدث عن صندوق لإقراض الطلاب كلفة تعليمهم فيكون بالمستطاع استردادها.

لقد لعب التعليم الأهلي في الماضي، دوراً مشهوداً في مسيرة السودان التنموية. ولكن ظهرت في عهد الإنقاذ أشكال من التعليم الخاص تسعي لتعظيم الربح فقط، فوجدت ضالتها في التعليم الطبي، والصحي ضمن مجالات أخري تصلح للتسويق. هنا يعود للمال، فقط، الفضل في تخطي العقبات الأكاديمية  بمجالات تتطلب  مقدرات ذهنية عالية، لم يكن من سبيل للدخول إليها، والتعاطي معها لو لا المال نفسه. ولذا فلا غرو أن صارت الأخطاء الطبية وانهيار البنايات من الأمور المألوفة في السودان. كما ظهر التعليم العالي ذو الطبيعة المزدوجة(Dual Nature)- حكومي وخاص في نفس الوقت؛ متسقاً مع افتراض الامير الفرنسي دي بروقلي(de Broglie) الذي نال بموجبه جائزة نوبل في الفيزياء عام 1929م عندما امتزج  الخواص الجسيمية والموجية للاجسام المتحركة- مثلما هو الحال بالنسبة لجامعتي الرباط الوطني وأفريقيا العالمية، علي سبيل المثال لا الحصر، اللتان لا تستطيع إدارتيهما أن تجيبا علي السؤال: هل جامعتيهما حكوميتان، أم خاصتان؟ الكل يعلم أن جامعة الرباط الوطني تتبع للشرطة، التي تنتسب بدورها لوزارة الداخلية: فهل هنالك جهة أحق منها  بالصفة الحكومية؟ ولكن مع ذلك تصر إدارتها علي الصفة الأخرى، عندما يتعلق الأمر بتعظيم مقادير الرسوم الدراسية للطلاب؛ لا تلبث أن تنكرها عند البحث عن الامتيازات الحكومية لمنسوبيها. ينطبق نفس الشئ علي جامعة إفريقيا العالمية وإن كان بدرجة أقل حدة. تعتبر هذه اللعبة خطوة تمهيدية من قبل حكومة الإنقاذ، نحو خصخصة التعليم العالي بالكامل في الجامعات القومية، التي أذعنت لخدعة القبول الخاص بحجة نضوب الموارد الحكومية. كما برزت أيضاً أشكال لجامعات هجين(Hybridized) )فئوي-حكومي-خاص(، كما هو حال جامعة المغتربين التي أجاز نظامها الأساسي مجلس الوزراء مؤخراً- حسناً فعل، لأن لافتاتها قد نصبت منذ أمد بعيد، وكانت علي وشك أن تفتح أبوابها للطلاب- وكأن البلاد تنقصها الجامعات. استنسخت(cloned) أيضاً أنماط مشوهة لمؤسسات معنية فقط بالدراسات العليا، خارج منظومة التعليم العالي والبحث العلمي، مثل: أكاديمية السودان للعلوم، التابعة لوزارة العلوم والتكنولوجيا، لكي لتساهم في الزيادة المهولة لعدد رسائل الماجستير، والدكتوراه الممنوحة داخلياً(Inbreed)؛ رغم الإمكانات البحثية الشحيحة،  وما لذلك من أثر سالب علي مخرجاتها.

إذا نظرنا لتاريخ نشأة هذه الأنماط من الجامعات، والمؤسسات: نجد أن خلف أي منها رجل قوي من رجالات الإنقاذ "البدريين" ذو مقدرة قاهرة في التعدي علي اختصاصات أي وزير آخر، دون أن يرمش جفن، ويهابه بقية الوزراء عند عرض مشروعه الأعرج علي مجلسهم الموقر؛  فيمتدحون أفكاره الألمعية، لتتم إجازته بالإجماع كالعادة (as usual). فنحن المعنيون بالتعليم عموماً، لا نهتم كثيراً بالروائح النتنة، التي صاحبت مراحل تطورها، كوننا لا نملك أي آلية للتصدي لها، خاصة: بعد استفحال داء الفساد وعجز المجلس الوطني عن  محاسبة مرتكبيه رغم إفادات المراجع العام  الدامغة (ما فتئ وزير المالية يردد: أن من يملك الدليل فليقدمه)؛ بقدر ما نشفق علي فلذات أكبادنا من آثارها السالبة علي العملية التعليمية برمتها، ومن ثم تدني مستويات مخرجاتها. ختاماً أهدى هذا المقال لمن بيدهم مقاليد أمور التعليم العالي؛ وليس من بينهم، بالطبع، وزير التعليم العالي والبحث العلمي؛ وأقول لهم: رفقاً بالشعب السوداني، فالرائد لا يكذب أهله.

*عميد كلية العلوم بجامعة الخرطوم الأسبق



Source: www.tahalof.info


رأي ـ تعليق  



هل قرأت المقال اعلاه؟   
اكتب    
 
 
 
 
 
  
site created & hosted by