# # # #
   
 
 
[ 03.11.2009 ]
النظام العدلي السوداني وانتخابات إتحاد طلاب جامعة الخرطوم ـ د.عثمان إبراهيم عثمان*




سأحكي قصة هذه المرة، أنا ضمن شهودها - متعهم الله جميعاً بالصحة والعافية - فهم زملاء  وأصدقاء، وسأمسك عن ذكر أسمائهم، إلا إذا دعي الحال لاحقاً، وأكتفي فقط بإيراد مناصبهم. دارت أحداث القصة إبان انتخابات اتحاد طلاب جامعة الخرطوم دورة 2005-2006م. فحسب دستور اتحاد طلاب جامعة الخرطوم لعام 1993م تتحول اللجنة التنفيذية للاتحاد إلي لجنة انتخابات بعد انقضاء الدورة؛ وتتولي عمل الأختام، وإعداد لائحة الانتخابات، وتحديد عدد مراكز الانتخابات بالكليات، وإعداد قوائم الناخبين، والمصادقة علي السجل الانتخابي، وتصميم بطاقات التصويت، وإحضار صناديق الاقتراع، واختيار ضباط المراكز، واستقبال الطعون، والشكاوي، والفصل فيهما، والإشراف العام علي العملية يوم الاقتراع، وإعلان النتيجة بعد التوقيع عليها؛ تعاونها في كل هذه الفعاليات لجنة مراقبة من الأساتذة؛ غير منصوص عليها في الدستور، ولكن تقبلها الطلاب كونها تضيف بعداً أبوياً للعملية الانتخابية برمتها. لقد كان علي رأس لجنة المراقبة في تلك الدورة الانتخابية عميد شؤون الطلاب حينئذ،  وكنت عضواً فيها بحكم منصبي كعميد لكلية العلوم بالإضافة لأعضاء آخرين من كليات مختلفة، ولكن أهمهم بالتأكيد كان ممثل كلية القانون.

وصل ضباط المراكز، وأعضاء لجنة المراقبة إلي مراكز التصويت بالكليات، والمجمعات المختلفة في السابعة والنصف صباحاً؛ ثم وصلت صناديق الاقتراع، وبطاقات التصويت، والسجل الانتخابي، والأختام، والمستلزمات الأخرى بصحبة الشرطة، والحرس الجامعي، وسلمت لضباط المراكز كل في المكان المخصص له، والذي خضع بعد ذلك لحراسة قوة من الحرس الجامعي. بدأت عملية الاقتراع في الثامنة صباحاً لتغلق عند الثامنة مساءً. سارت العملية الانتخابية علي ما يرام  في يوم الاقتراع، فلم ترد أي شكاوى أو طعون؛ كما قام فريق من لجنة المراقبة ولجنة الانتخابات بصحبة المدير بالإنابة - كان المدير حينئذ في رحلة عمل خارج السودان - عند طوافه علي مراكز الاقتراع منتصف النهار للاطمئنان علي سير العملية الانتخابية. وعند العاشرة مساءً، وبعد أن بلغت نسبة التصويت النصاب القانوني، أتفق ضباط المراكز (أعضاء هيئة تدريس) مع المراقبين (طلاب) الذين يمثلون مختلف القوائم الانتخابية، علي آلية محددة لعملية فرز الأصوات، ثم بدأت العملية، والتي استمرت حتى بزوغ شمس اليوم التالي، كنا نجوب طوال الليل علي مراكز الاقتراع ونتحسس أن كان هنالك ما يعكر صفو العملية. تتسم عملية الفرز بشفافية عالية تمكن كل مراقب عن قائمة من أن يحصي عدد الطلاب الذين صوتوا لكل قائمة من القوائم؛ ومن ثم فإن نتيجة التصويت بكل مركز تكون معلومة لدي الكافة بعد انتهاء عملية الفرز بذلك المركز. يعني ذلك أن النتيجة النهائية قد تحسم قبل فرز جميع المراكز عن طريق الحساب البسيط في المراكز التي تم فرزها.

عند حوالي الرابعة والنصف صباحاً، وبعد الفراغ من فرز عدد من المراكز وضح بالحساب أن قائمة تحالف القوي الوطنية الديمقراطية قد حازت علي أكبر عدد من الأصوات، وأنها قد حازت علي مقاعد المجلس الأربعيني جميعاً، تلتها قائمة الطلاب الإسلاميين الوطنيين ( الفرع الطلابي للحزب الحاكم). اكتمل فرز جميع المراكز عند السادسة صباحاً. وحتى ذلك الحين لم تسجل أي شكاوي أو طعون، فالتأم اجتماع بدار الاتحاد ضم لجنة الانتخابات ولجنة المراقبة بغرض إجراء عملية الإحصاء الكلي للأصوات التي رصدت لكل مرشح بجميع القوائم الانتخابية بصورة رسمية، ولإعداد التقرير النهائي ومن ثم التوقيع عليه من قبل رئيس لجنة الانتخابات (رئيس الاتحاد للدورة السابقة) ورئيس لجنة المراقبة (عميد شؤون الطلاب آنذاك). عند العاشرة صباحاً ونحن منهكون في تجهيز هذه الإحصاءات لاحظنا تغيب عميد شؤون الطلاب آنئذ، وبعض أعضاء لجنة المراقبة (معروفون بولائهم المطلق للحزب الحاكم)، فحسبنا أن التعب قد بلغ منهم مبلغاً، نظراً لان الجميع لم ينم طوال الليل، فآثروا التمتع بقسط من الراحة. في حوالي الثالثة بعد الظهر، اكتملت الإحصاءات، ورتب الناخبون تنازلياً حسب عدد الأصوات في قائمة أصبحت جاهزة للتوقيع، ومن ثم الإعلان الرسمي للمحصلة النهائية للانتخابات في مؤتمر صحفي بقاعة الشارقة دعي له خصيصاً لهذا الغرض. ظللنا في انتظار مجيء عميد شؤون الطلاب آنئذ، ولما لم يحضر هاتفه رئيس لجنة الانتخابات، فعلم أنه بقاعة الشارقة، وأننا يجب أن نذهب إلي هناك لتتم إجراءات التوقيع والإعلان معاً. وصلنا غرفة كبار الزوار بقاعة الشارقة، فوجدنا السيد عميد شؤون الطلاب آنئذ بمعية أعضاء لجنة المراقبة الذين اختفوا أثناء عمليات الإحصاء وهم في هم عظيم. لدهشتنا رفض السيد العميد التوقيع علي نتائج الانتخابات بحجة أن إحدى القوائم الانتخابية قد تقدمت بطعن وأنه يجب الفصل فيه قبل إعلان النتائج. كان رد رئيس لجنة الانتخابات بأنه حسب لائحة الانتخابات فإن أي طعن في إجراءات الانتخابات يحب أن يصله هو، وليس أي شخص غيره وأنه لم يصله أي شي من هذا القبيل. تسرب خبر الطعن، ورفض السيد العميد التوقيع علي النتائج إلي خارج غرفة كبار الزوار، حيث كانت ترابط جماهير تحالف القوي الوطنية الديمقراطية، والتي ظلت ساهرة تحرس الانتخابات طوال الليل، فحدث هرج ومرج، وبدأت الهتافات تتعالى. عندئذ شعر السيد العميد بخطورة الموقف فوقع علي نتائج الانتخابات علي مضض.

انتقلنا بعد ذلك للقاعة الكبرى التي كانت مكتظة بقيادات وجماهير الأحزاب ليبدأ المؤتمر الصحفي الذي خاطبه السيد المدير بالإنابة وأعلن عن حصاد القوائم الانتخابية المختلفة، وفوز قائمة تحالف القوي الوطنية الديمقراطية بمقاعد المجلس الأربعيني، ثم أعلن، في استحياء، عن ورود طعن من إحدى القوائم وأنهم بصدد معالجته. ماذا حدث؟ وما طبيعة الطعن؟ ومن يقف وراءه؟ ولمن رفع؟ وكيف تم التعامل معه؟
بعد أيام قلائل، عقدت لجنة المراقبة اجتماعاً بغرض إعداد التقرير، الذي سوف ترفعه للسيد المدير عن العملية الانتخابية. في أثناء المداولات استفسرت أنا شخصياً عن فحوى الطعن الذي تقدمت به إحدى القوائم الانتخابية؛ فابلغنا السيد عميد شؤون الطلاب آنئذ أن قائمة الطلاب الإسلاميين الوطنيين قد تقدمت له بطعن كرئيس للجنة المراقبة، فأوصى للسيد المدير بالإنابة آنئذ، برفعه للجنة قانونية للبت فيه؛ استناداً علي المادة 6 من الباب الرابع لدستور الاتحاد لسنة 1993م. أوضحت للسيد العميد بأن ما فعله ليس من صلاحياته، وأنه كان يجب أن يوجه ذوي الشأن بإرسال الطعن لرئيس لجنة الانتخابات، والذي كان سوف يجمع لجنتي الانتخابات والمراقبة للرد عليه حسب لائحة الانتخابات؛ كما أن مادة الدستور التي استند عليها، والتي تقرأ:"في حالة عدم وجود نص في الدستور أو في حالة الاختلاف حول تفسيره أو تطبيقه يحال الأمر إلي لجنة قانونية تضم قاضياً ومستشاراً ومحامياً تعينهم الجهات التابعين لها ويكون رأيها ملزماً"؛ لا تتطابق مع الحالة التي نحن بصددها؛ وأن للطعون مواقيت وتعالج في حينها عبر لائحة الانتخابات. وافقني بقوة ممثل كلية القانون في كل ما ذهبت إليه، كما وجدت السند من بقية أعضاء لجنة المراقبة. أجبرت هذه المواجهة السيد العميد للاعتذار للجنة.

حضر السيد المدير آنئذ، فعقد اجتماعاً مع لجنة المراقبة، لمناقشة تقرير العملية الانتخابية، استهله السيد عميد الطلاب بسرد وقائعها بما في ذلك الطعن الذي تنظره لجنة قانونية بالنائب العام، مبتسراً ومفرغاً عن محتواه. عند فتح الفرص للأعضاء، فصلت في قضية الطعن هذه، وأوضحت أن كل ما تم فيها يتعارض مع لائحة الانتخابات ومع دستور الاتحاد؛ كما أن اللجنة القانونية لا ينعقد لها الاختصاص للبت فيها. لم يرد السيد المدير بكلمة، كعادته عندما لا يعجبه الحديث، علي هذا الاتهام الخطير الذي يخدش سمعة الجامعة ويضع مصداقيتها، كمؤسسة أكاديمية مستقلة، في المحك. ولكن لا بأس فالسلطة تريدها أن تكون كذلك؛ وما علي الإدارة العليا للجامعة إلا أن تفعل ذلك بحكم أنها معينة من قبلها، مثلها مثل باقي أوعية الخدمة المدنية بالبلاد والتي جميعها مدجنة للحزب الحاكم. منذ ذلك الحين فقدت الثقة في الخدمة المدنية. حسناً، ليس هذا بالشيء الخطير مقارنة بما فعلت اللجنة القانونية بالطعن الذي رفع لها. فماذا فعلت يا ترى؟

أمرت اللجنة القانونية بحجز جميع صناديق الاقتراع في المكان الذي جمعت فيه عند الفراغ من فرزها؛ وهو قاعة الاجتماعات الوحيدة بدار الاتحاد، تحت حراسة قوة من الحرس الجامعي، لتحرم الاتحاد الجديد من استغلالها لفترة طويلة، مما عطل أعماله. استدعت اللجنة القانونية كذلك رئيس وأعضاء لجنة الانتخابات لمقابلتها عدة مرات، وكأنهم متهمون في قضية لم يكونوا أصلاً طرفاً فيها، وبمداولات أشبه ب"حوار الطرشان"؛ إذا ما قدر لهم أن يمثلوا أمامها؛ وفي بعض الأحيان يعودون، بعد قضاء الساعات الطوال، دون أن يكلموا أحداً. فعل كهذا كان من الممكن أن يشجع أعمال العنف بين الطلاب.

ترتكز أي أبجديات للتقاضي علي قانون مجاز من جهة رسمية، أو لائحة مستمدة من دستور للقياس عليهما عند الحكم بين الناس بواسطة هيئات ذات اختصاص. كما أسلفنا فقضايا الطعون في تلك الانتخابات تبت فيها لجنتي الانتخابات والمراقبة وحدهما، وبإعمال لائحة الانتخابات المستمدة من دستور الاتحاد لعام 1993م لوحدها؛ ولذا فلا ينعقد أي اختصاص لأي جهة قانونية أخري غيرهما. كان الأمل أن ترد اللجنة القانونية الطلب للجامعة بعدم انعقاد الاختصاص، ولكن خاب فألنا. واستمرت في إجراءات تقاضي عقيمة اصطدمت بإحجام لجنة الانتخابات من المثول أمامها، إثر تلقيها مشورة قانونية مبتكرة. رويداً رويداً فك الحظر عن صناديق الاقتراع ومن ثم قاعة الاجتماعات وكأن شيئاً لم يكن. هذه الأحداث أفقدتني الثقة، كمواطن سوداني، في النظام العدلي برمته في بلادنا الحبيبة. ولا أدري أن كان فقدان الثقة فيه يشكل خرقاً للقانون الذي نعرفه، ولكنه ربما يكون كذلك لآخر لا ندري عنه كما حدث للجنة الانتخابات. الأخطر أن الكثير من الشعب السوداني يشاركني هذا الاعتقاد الذي عبر الحدود ليغدو سبة قارية سار بها الحكماء. ولكن ما هي دلالات هذه القصة؟

أنا لا أفهم كثيراً في السياسة ومع ذلك أقول أن من يعي أبجدياتها لن يوافق علي دخول انتخابات عامة جميع مفاتيح الحل فيها عند الخدمة المدنية والنظام العدلي اللذان يخضعان بالكامل للحزب الحاكم. استند في قولي هذا علي مظاهرتهما بالباطل لفرع الحزب الحاكم بالجامعة ذات المجتمع المستنير والمحدود. كفى الله بلادنا شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إنه نعم المولي ونعم النصير.

* عميد كلية العلوم بجامعة الخرطوم الأسبق 



Source: www.tahalof.info


رأي ـ تعليق  



هل قرأت المقال اعلاه؟   
اكتب    
 
 
 
 
 
  
site created & hosted by