# # # #
   
 
 
[ 05.10.2009 ]
جوبا .. الحياة تُروى ـ أمير بابكر عبدالله




(1)
سافرت مرة أخرى- ولكن بالطائرة هذه المرة- إلى مدينة جوبا، بعد أربعين عاماً او يزيد، حاملاً قلباً وعقلاً وبينهما ذاكرة. تلك الذاكرة الخرافية المطبوعة داخلها تفاصيل أول رحلة لي، وعدة رحلات بعدها، بالبواخر النيلية من مدينة كوستي (الميناء النهري) إلى جوبا بصحبة أسرتي وأنا إبن خمس سنوات. الرحلة بالباخرة لها متعتها التي لا تضاهيها متعة مقارنة بالسفر بالطائرة جنوباً، والفرق بينهما أن الأولى تخترق بك الزمان والمكان بهدوء شديد، مما يجعل التفاصيل تبني خلاياها كما النحل داخل الذاكرة، بينما بعد فعل الإقلاع يتلاشى المكان. ومجرد إغفاءة أثناء تحليق الطائرة تغيبك عن الزمان، وتفوت عليك حتى التفكير في الهبوط السيئ للكابتن الذي تسبب في إيقاظك، لتبدأ في لملمة أطرافك على عجل قبل أن تهبط إلى أرض المطار.

أكثر من سبعة أيام تستغرقها الرحلة بالباخرة من ميناء كوستي إلى ميناء جوبا النهري في ذلك الزمان، والباخرة عبارة عن مدينة أنيقة صغيرة تخترق، كما خنجر، بمقدمتها الحادة جسد الماء الجاري شمالاً. هي لا تخترق جسد الماء فقط المستوية داخل عمقه، بل حتى الشواطئ الممتدة على جانبي النهر التي كلما صار المكان جنوباً أحكمت الخضرة قبضتها وصارت سيدة الموقف. وقتها ورغم تصاعد حدة الحرب في الجنوب إلاً أن ضفتي النهر حافظتا على مستواهما ولم تنخفض إحداهما عن مستوى الأخرى، ولا صاحتا كما ضفتا نهر د. بشرى الفاضل: يا سودان هل تفلح الأرض أم أنكفئ لأدلق مياهي؟ بل كانت المياه فاتحة ذراعي رغبتها للتواصل.

"آه ما أفظع قهر الضفاف!" هكذا صاحت التماسيح المستلقية في هدوء على بعض المساحات الرملية في ضفتي النهر متناثرة هنا وهناك. ولم يذجرها النهر لتسبح شمالاً حيث البحر، ولم يزمجر فيها: إذاً موتي. حين تذمرت قائلة: ماؤه مالح. ولكنها لا زالت تغوص في بطن النهر وتحفر جنبات واديه ليسع عرضه البلاد بأسرها. (هذه الفقرة نسخة معدلة من مقطع قصصي لبشرى الفاضل، ديكتاتورية). أما التماسيح التي تمشي على قدمين، تلك التي لا تزحف على أربع، فهي أكثر من تلك التي تعيش في بطن النهر، وتنتشر شمالاً وجنوباً، تفسد علينا الحياة التي يجب أن تعاش لتجعلنا نروي.

لم أكن أرى التماسيح وحدها المنتشرة على جانبي النهر، بل حيوانات كثيرة أنواعها، برمائية (القرنتي فرس النهر، والثعابين المائية التي يبعدها الأمواج التي تحدثها حركة الباخرة)، وبرية قدر ما يحصيها الخيال. وبشر زرافات ووحداناً، لا تكاد تبين ملامح قرية أو مدينة على الشاطئ يمكن أن ترسو عليه، حتى يتدافعون في اتجاهها ليمنحوا الحياة دفقاً من روح البر يزيل بعض وحشة ربما علقت في نفوس البعض، وأنا لست منهم دون شك محصن بمتعة السفر وبطفولتي وشقاوتها وقدرتها على العيش في كل الظروف.

أما الطائرة فلا تتيح لك الوقت للاستمتاع ولا الأفق، خاصة إذا كانت رحلة لمهمة كتلك التي رمت بي داخل أحضانها. ورغم أني كنت أحمل قلبي وعقلي في تلك الرحلة إلا أن هم بحجم الوطن لابد أن يسيطر عليك لتفتقد حس الراوي والقصص للحظات وتندغم في تلك الحياة التي يجب أن تعيشها. فذلك الصندوق الطائر لا يتيح لك الوقت للتأمل عبر نافذته الصغيرة إن حالفك الحظ للجلوس بجوارها وإلا ضايقت جارك الذي يجاورها، وحتى إن إخترقت ببصرك النافذة فلا أفق يحتويك سوى تلك الجبال من السحب المتكومة أسفل هيكل طائرة وموسم الأمطار يشارف على نهاياته. ربما لحسن الحظ أن حملت معي الخطاب الذي كنت سألقيه في مؤتمر جوبا نيابة عن التحالف الوطني السوداني، وكتاب الوجود والزمان والسرد الذي يدور حول فلسفة بول ريكور والذي قال عنه مترجمه سعيد الغانمي إنه يتوجه لقارئ مثقل بتراث ثقافي عريق، ويتطلع في الوقت نفسه إلى تأسيس مستقبله.

(2)
وها أنا يحملني عقلي إلى جوبا مثقل بتراث ثقافي عريق، ومتطلعاً إلى تأسيس المستقبل. ذلك التراث المتنوع المتعدد الذي يثري اللوحة التي يحتويها الإطار، إطار الدولة الذي بات لا يسعنا، فصرنا نتململ كما طائر لم يفقس بيضته بعد. ذلك لأننا كما جاء في الخطاب " لم تناقش في ذلك الوقت (مؤتمر جوبا الأول 1947) القيم والمفاهيم التي تحرُس هذه الأُسس والمبادئ وضرورتها لقيام دولة المواطنة في اعلان جوبا "ون"، لعلَّ هذا مرده لحسن النوايا والظن وربما الغبطة والفرحة بالاستقلال، التي خلفت خفة عند البعض واستخفافاً عند آخرين. فكانت الغفلة وايضاً الاستغفال أُم وأَب مسلسل نقض العهود والمواثيق كما كتب ابيل الير.

هذه القيم والمفاهيم تأتي في مقدمتها الحرِّية وتعزيز حق الإرادة الحرة للشعب في الحكم والتشريع، ليتم تعزيز احترام واقع التعدد الاثني والديني والثقافي، والتواطؤ على عدم استغلال هذه المواعين "أو العناوين" سياسياً، والالتزام بتمليك شعوبنا وسائل الوعي وأدوات احترامها لذاتها ليكون اساساً لاحترامها للآخر، وسبيلاً لتطورها، حتى تكون دولتنا أكبر من الدثارات الضيقة، وتُبنى بصورة مستقلة عن انتماءتنا السياسية. دولة تعطي هويتنا قيمتها وتعاظم من إنسانية شعوبها. ولكن وبكل الأسف، فحسن النوايا كان مِهاد الطريق لجحيم الاستغلال البشع للدين وللعرق وللسلطة وضآلة الدولة وضيقها حتى على المواعين الضيقة. فكان أن قامت الاحزاب على أسس دينية وعرقية وطائفية مما أدى لضعف الحركة السياسية عموماً، وبالتالي انعدام الاستقرار السياسي. وقد شهد العقدان الاخيران من عمر حكمنا الوطني قمة تجليات هذه الازمة في التوظيف الديني والاثني والعرقي في الصراع تحت مظلة الشمولية الأخيرة والتي يجب أن نعمل هنا على أن تكون الأخيرة فعلاً."

وكنت كما غيري متطلعاً إلى تأسيس المستقبل في "ان نقيم دولة للجميع يسودها حكم القانون وتحرس مؤسساتها الشفافية والعدالة وهاتين قيمتين افتقدناهما عندما ساورتنا الشكوك في التعداد واجتاحتنا الريبة في تقدير ثرواتنا... كما افتقدنا دائما الدولة: أجهزتها وأدواتها وإداراتها، التي هي ملكاً للجميع ويجد الجميع فيها أنفسهم.. دولة تحكم مؤسساتها المهنية والحيدة.. دولة الرأي وحرية التعبير عن الرأي، دولة خُدَّامها الأحزاب وأصحاب المناصب فيها، وليست هيَّ بخادمتهم بأكثر من كونهم مواطنيها.. هذا ما نبحث عنه وما نريده وهو ضروري لنا جميعا. للذين استأثروا بالسلطة زمناً: هذا سيسهل الامر عليكم، للطامحين فيها: هذا سيجعل طموحكم ممكنا... "

ما بين الخطاب والوجود والزمان والسرد كان العقل منشغلاً بهاجس أن يبقى هذا البلد موحداً وديمقراطياً، وأن نعمل جميعاً من أجل ذلك. فالوحدة القائمة على نظام ديمقراطي هي في حقيقة الأمر إتحاد بين مكونات مختلفة واعية لضرورة أن يلعب كل منها دوره فيها، والمعادلة هنا قائمة على بسط الحريات. بدون ذلك سنظل نحرث في البحر.

(3)
والقلب مفرق دمه بين الذاكرة والعقل، يخفق بالرغبة في رؤية المدينة التي شكلت جزء من الوجدان منذ أكثر من أربعين عاماً وينبض بتحقيق أمنية بلقاء صديقي العزيز كير قرنق ديكويك الذي فارقته لآكثر من عشرين عاماً، ومشغول بالمؤتمر وما سيتمخض عنه.

أول ما فعلته عند لقائي بالأستاذ الفاضل إسماعيل سليمان المقيم في جوبا هو سؤاله عن موقع البيت الذي قضيت فيه بعض طفولتي والذي يواجه مبنى الإعلام في المدينة، فكان أن دلني عليه في اليوم الأول لوصولي. ليس هناك تغيير يذكر فالمحيط حوله رغم التغييرات الطفيفة ما زال كما هو معلق في الذاكرة، فمحيط المنزل بعد أن كان مجرد أشجار ضخمة تفصلها مسافات واحدة تقريباً صار محاطاً بسور من القنا بحيث يحجب الرؤية قليلاً.

أما صديقي كير قرنق، التقيته في مساء اليوم التالي بعد حصولي على رقم تلفونه المحمول من أحد قادة الحركة الشعبية، فجاءني هاشاً باشاً يحمل مثلي كثير من الأسئلة. لم يتغير سوى حجم التجربة التي إكتسبها خلال تلك الفترة التي إفترقنا فيها، ولكنه كما هو بطبعه السمح ونبله وجسارته. قلبي يقول إن الوحدة باقية بشروطها الجديدة.
صار سهلاً على عقلي دخول فعاليات المؤتمر الذي قرأنا مخرجاته كل من زاويته، لكني استغربت لكل هذه الضجة التي أثارها المؤتمر الوطني حوله والعداء الذي قابله به بالرغم من أن القضية بحجم وطن، وأن الوقت قد حان فعلاً للتعامل بالمسئولية الكافية حين التعاطي مع قضية بحجم وطن.

 



Source: www.tahalof.info


رأي ـ تعليق  



هل قرأت المقال اعلاه؟   
اكتب    
 
 
 
 
 
  
site created & hosted by