# # # #
   
 
 
[ 23.09.2009 ]
مؤتمر جوبا مطلوبات رئيسية ـ أمير بابكر عبدالله




أنتهى الشهر الكريم، تقبل الله صيامكم وقيامكم، وكل عام وأنتم بخير. يبدو أن هذه السنة استثنائية ورمضان استثنائي لم نشهد له مثيل منذ اكثر من عشرين عاماً. فالشياطين في رمضان هذا العام أحكم تقييدها خاصة شياطين المؤتمر الوطني، بعد أن كانت تسرح وتمرح حتى في رمضان. ولا أدري كيف كانت تفك قيدها لتفعل في أفاعيلها في هذا الشهر الكريم، شهر الصوم، وكلنا نعرف أنه لله وإنه به يجزي. فعادة ما يمر شهر رمضان ومن خلال رهقه يمر شريط الذكريات الدامية فيه، ابتداءاً من مقتل الثمانية وعشرين ضابطاً في بداية التسعينيات من القرن الماضي الذين حاولوا الإنقلاب على النظام الذي جاء هو الآخر بإنقلاب ونفذ فيهم حكم الإعدام في رمضان، ومروراً بمفاصلتهم الشهيرة التي جاءت في نهاية التسعينيات وفي رمضان أيضاً. رمضان هذا العام –كما ذكرت- استثنائي جداً، فها هي قيادات المؤتمر الوطني تلقي بالتصريحات هنا وهناك حول الحريات، والسماح للقوى والأحزاب السياسية بالعمل السياسي المفتوح، بل ذهب السيد رئيس الجمهورية إلى توجيه أجهزة الإعلام القومية بإتاحة مساحات كافية لتلك القوى لطرح برامجها عبرها، خاصة وأن المناخ القادم هو مناخ انتخابات. بل وأكثر من ذلك وقع رؤساء التحرير مع جهاز الأمن والمخابرات الوطني وثيقة تفضي إلى العمل بحرية والأهم هو الاتفاق على إلغاء الرقابة القبيلة على الصحف التي كانت تشكل بعبعاً ومأزقاً للعديد من الصحف، كما بشرتنا بذلك صحيفة الأحداث في مانشيت عريض الأسبوع الماضي. ألا تستحق كل هذا التصريحات والتغير في لغة الخطاب وقفة؟ تستحق إذا جاءت بعيدة عن غرض الاستعراض الإعلامي وليست لمجرد الإستهلاك الذي اعتدنا عليه، وتستحق إذا ما صاحبتها مراسيم دستورية بتعطيل كل القوانين المقيدة للحريات، لتأخذ طابعها القانوني، وتستحق أكثر لأنها ليست منحة يهبها المؤتمر الوطني وقت يشاء ويمنعها متى شاء لأنها قيم أصيلة من صميم حقوق الناس في هذا البلد، بل وناضل الناس من أجلها بأرواحهم ودمائهم ومالهم وعرقهم لينتزعوها. وتستحق اكثر من ذلك إذا جاءت بعيدة عن المكايدات السياسية خاصة أن جند الحريات من صميم موضوعات مؤتمر القوى والأحزاب السياسية الذي دعت له الحركة الشعبية في مدينة جوبا. ومؤتمر جوبا هو ما دعاني لهذه المقدمة الطويلة، لأن قضية الحريات تتخلل كل موضوعاته، وبدونها سنظل محلك سر. هذا المؤتمر الذي ينعقد في ظل ظروف مفصلية من تاريخ السودان، وتلك المدينة التي تشهد للمرة الثانية إنعقاد مؤتمر بهذه الأهمية فيها، إذ انعقد الأول قبل أكثر من ستين عاماً وخاطب قضايا وخرج بتوصيات لو التزم ساستنا وقتها بها لكانت لبنة لدولة حقيقية خارجة رماد الإستعمار. ولكنهم أبوا إلا أن يبقوها مدفونة بألغامها التي ظلت تتفجر كل حين. ها هي المدينة تعد العدة لاستضافة السودانيين من كل حدب وصوب للحوار والخروج بمقررات وتوصيات تضع العربة أمام الحصان الذي سيخرجنا من ذاك الرماد. ولن يتم هذا إلا بروح من الشفافية والحساسية العالية والحوار المسئول، الذي لا يحتمل التخندق الحزبي ولا محاولات تغليب الرأي الواحد. فكلنا مدرك لأهمية تلك القضايا، ولمدى استفحال الأزمة التي لا أمل في الخروج من متاهاتها، إلاَّ بالتصدي لها بذهن منفتح على بوابات التوافق لا المساومات، فوجود السودان أكبر من عقلية المساومات التي أفضت إلى هذا الوضع. تأتي قضية وحدة السودان وضرورة إعادة بناء الدولة السودانية القائمة على ركائز التعدد والمستوعبة لواقع التنوع، المحور الأساسي الذي تندرج تحت تفاصيله كل القضايا الأخرى والتي بمعالجتها يتحقق الإستقرار وتهيأ الشروط اللازمة لتفادي مآلات التشظي والانفصال المحتملة. إن النظام الذي أفرزته الاتفاقيات، والدستور الذي أقرته الهيئة التشريعية لذلك النظام، ظل مجرد نصوص دستورية مفتقداً إلى القدرة على إنفاذ روح تلك النصوص، لأنه جاء نتيجة لعقلية المساومات التي فرضت نفسها أثناء التفاوض، ما قبل توقيع تلك الاتفاقيات، وسادت في مرحلة التنفيذ، ومفتقدة لآليات الدولة القادرة على إشاعة تلك الروح. ولأن الحفاظ على وحدة السودان هدف استراتيجي يجب العمل على تحقيقه مهما كانت التحديات والصعاب، فذلك يحتاج إلى توظيف جهد قومي شامل، يبدأ بفك هيمنة الحزب الواحد على مفاصل الدولة بإعادة هيكلة أجهزتها وتحويلها من التبعية والتأثير الحزبي إلى مؤسسات قومية تقوم على خدمة الجميع. وهذه الأجهزة والمؤسسات تشمل ضمن ما تشمل، جهاز الخدمة المدنية التي لا بد من إعادة هيكلتها لتتوافق مع متطلبات الحكم الفدرالي ومتطلبات بناء الدولة السودانية العصرية، وضرورة توظيف كل الطاقات الخلاقة و المبدعة وتعزيز الانضباط والأمانة والشفافية في دولاب عملها، والأجهزة الأمنية والشرطية التي بحكم وظيفتها مناط بها خدمة الدولة والحفاظ على النظام الذي يتراضى ويتفق حوله الجميع، وهو بالضرورة نظام ديمقراطي يعبر عن كل مكونات الشعب السوداني. وكذلك الاهتمام ببناء جيش قوي حديث أولوياته حراسة النظام الديمقراطي، والمحافظة الدستور وحماية حدود البلاد من التدخلات الخارجية، والتي يمكن حمايتها ببسط علاقات ندية وتعزيز مبدأ حسن الجوار وعدم التدخل في شئون الدول الأخرى. الحديث عن المصالحة الوطنية والوفاق الوطني لن يتحقق بالأمنيات ولا بمجرد الرغبات، وإنما هناك مطلوبات واجب التعاطي معها بإيجابية، وفي مقدمتها قضية الحريات، التي بدونها سنظل نحرث في البحر. فالحريات هي حجر الزاوية في عملية التحول الديمقراطي أو عملية الانتقال الحرج من النظام الشمولي إلى رحاب النظام الديمقراطي الذي نتطلع إليه. ويشمل ذلك وضع استراتيجية سياسية، تهدف من جهة إلى تعديل أو إلغاء كل القوانين والمواد التي تتعارض نصوصها مع حرية التنظيم والصحافة وكافة الحقوق الأساسية، ومن جهة أخرى إلى حسن إدارة العدالة وسيادة حكم القانون، والتي بدونها ستظل القوانين مجرد نصوص جميلة ولكن بلا نكهة. إذا كانت الحريات هي المفتاح للتحول الديمقراطي، والطريق للمصالحة الوطنية فهي البوابة المؤدية إلى الانتخابات التي ستصوغ مخرجاتها طبيعة وشكل النظام القادم. النظام الديمقراطي الذي يجيء باحزاب إلى السلطة ملتزمة بالترسيخ للممارسة الديمقراطية. البعض يعتقد أنه بمجيئه للسلطة يعني أن الشعب فوضه ليفعل ما يشاء في الدستور والقوانين، بمعنى أن من حقه إعادة صياغة القوانين والدستور بما يتلاءم وأيدلوجيته وفكره، بينما الحقيقة تقول إنه انتخب بناءاً على برنامج خدمي يستفيد منه كل الشعب وليس منسبيه كما هي طبيعة الأنظمة الشمولية وانظمة الحزب الواحد. إذاً واحدة من مخرجات الانتخابات هي سلطة قادرة على خدمة المواطنين وتعزيز النظام الديمقراطي وحمايته. وهذا لن يتأتى إلا في ظل دولة قومية أجهزتها هدفها حماية النظام الديمقراطي والمحافظة على الدستور. فإذا كان المؤتمر الوطني يعتقد أنه بتعطيله للحريات لكل هذا الوقت يعني شل قدرات القوى السياسية لمقابلة مستحقات الانتخابات، وأن تعاطيه الإيجابي معها والذي جاء متاخراً جداً، معتمداً على عدم جاهزيتها لتأتي به الانتخابات مرة أخرة لبسط نظامه السابق، القائم على الأحادية، فهذا خطل وعودة للمربع الأول. لعل من أهم القضايا التي ستشغل بال المؤتمرين هي الحرب في دارفور. وأزمة دارفور ليست ببعيدة عن محاور التحول الديمقراطي والحريات والانتخابات. وهي لن تحل إلا بإرادة سياسية قوية وبجرأة تغلب مصلحة السودان على المصالح الحزبية من كل الأطراف، وتقع المسئولية الأكبر على المؤتمر الوطني الذي ظل يتعامل معها من منظورها العسكري فقط، وهي في طبيعتها مشكلة سياسية واقتصادية واجتماعية يجب الاعتراف والتعاطي مع جذورها. لذلك تجيء ضرورة اتخاذ خطوات إجرائية لتمهد الطريق للحل، ولتبدأ بالدعوة لوقف إطلاق النار بين كل الأطراف، وإكمال التعداد السكاني في المناطق التي لم يشملها تمهيداً لإدخال دارفور في مجرى العملية الانتخابية. وما هو أكيد هو قتل موضوع الاستفتاء حول تقرير المصير بحثاً، وهو تعبير عن فشلنا لأكثر من ستين عاماً في تأسيس دولة تستوعب تعددنا وتنوعنا، دولة تكون نموذجاً لكل القارة الإفريقية. تكون مثالاً لوحدة القرن الإفريقي ولوحدة شرق ووسط إفريقي التي كانت تجتهد لقيامها منظومة الأحزاب الأفريقية (Pan African). ها نحن نتحدث عن وحدة وانفصال بعد أن كان حديثنا قبل ستين عاماً مراعاة خصوصية الأقاليم الجنوبية في ظل الدولة الموحدة. لذلك يصبح التمهيد للتحول الديمقراطي وبسط الحريات هما الطريق لإعادة بناء الدولة التي تستوعبنا جميعاً لتكون أنموذجاً، وليس ذلك بمستحيل إن حزمنا إرادتنا ورغباتنا.

Source: www.tahalof.info


رأي ـ تعليق  



هل قرأت المقال اعلاه؟   
اكتب    
 
 
 
 
 
  
site created & hosted by