# # # #
   
 
 
[ 21.07.2009 ]
قراءة في دفاتر التغيير 2 من 2 ـ أمير بابكر عبدالله




جاء في الجزء الأول من هذه المقالة أن الإنقلاب الثالث جاء في ظل معطيات دولية وداخلية تختلف في بعض جوانبها عن تلك التي صاحبت الفترات السابقة، وهو ما سيسم بطابعه مسيرة مختلفة في كثير من جوانبها، ذاخرة بقضايا سكت عنها زمناً طويلاً، واحتقانات تفجرت، وصراع تنوعت أسلحته وتعددت. ليتخذ طابع التغيير القادم شكلاً نحاول أن نستبين ملامحه بقراءتنا لتلك المسيرة وما حولها، والتي قادت حتى الآن إلى ذروات لفصول مختلفة، كلما شارف فصل على الانتهاء، ويبدأ الناس في إخراج زفرة ارتياح، يبدأ فصل جديد يكاد يأخذ بالأنفاس حتى يتراجع إلى نهاياته.

هناك عدة معطيات ثابتة واخرى متغيرة تترى أثناء متابعتنا لمسيرة الانقلاب الثالث مما يقودنا لتوقعات عدة لطباع التغيير وإلى مآلاته. أول المعطيات الثابتة هو منهج الاستيلاء على السلطة والتي اشتركت فيها جميع نظم الحكم التي جاءت عن طريق الانقلابات العسكرية. وثاني المعطيات هو التدخل الحزبي ـ أي العامل السياسي ـ الذي قاد إلى استخدام هذا المنهج، فكل الانقلابات العسكرية جاءت بدوافع وإعداد وتدخل سياسي، وإن اختلف في غاياته ومبرراته. ثالث تلك المعطيات الثابتة هو فشل التغيير (على الأقل حتى الآن) باستخدام نفس المنهج الانقلابي، مما يقودنا لنتيجة مهمة تتمثل في سهولة الانقلاب على الانظمة المدنية باستخدام المؤسسة العسكرية، فيما برزت صعوبة استخدامها للإنقلاب على نظام جاء تحت حمايتها أو وصل إلى سدة الحكم بواسطتها. أما رابع المعطيات هو تطلع الجماهير الدائم للحريات، وأنها حجر الزاوية في إحداث التغيير. هذا غير المعامِل الثابت وهو حرب الجنوب.

المعطيات المتغيرة تتمثل في التحولات السياسية التي اتسمت بها علاقات الأنظمة الحاكمة التي جاءت عن طريق الانقلاب العسكري بالقوى السياسية المختلفة. فإذا اتسم نظام الحكم العسكري الأول بالتأرجح في علاقاته مع القوى السياسية وضعفها في كثير من الأحيان، فإنه حافظ على الطابع العسكري في إدراته للحكم. بينما تأرجح نظام مايو وترنح في علاقته بالقوى السياسية منذ انطلاقته الأولى وحتى نهايته. أما نظام الإنقاذ فقد حافظ على هيكل حكمه العظمي منذ استيلاء الجبهة الإسلامية القومية التي خططت للانقلاب على الحكم مستخدمة المؤسسة العسكرية في بلوغ ذلك.

العنصر الدولي والإقليمي كان له أثره الأكبر والأكثر وضوحاً في مسيرة نظام الإنقاذ، خاصة وأنه جاء إلى السلطة أثناء انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي وتشكل نظام القطب الواحد وما عرف بالنظام العالمي الجديد. وهذا الأثر الأكبر يتجلى في العلاقة المتبادلة بين النظام والعالم المحيط، والقاعدة الفكرية التي تنطلق منها سياساته الخارجية والتي ارتكزت على التشدد والتطرف الإسلامي، معتمدة في ذلك إلى تطلعها لقيادة العالم الإسلامي والتغلغل إلى داخل أنسجة الكثير من الدول المحيطة.

هذا العنصر تجاهله القائمين على الانقلاب الثالث، أو بالأحرى لم يفطن إلى مدى التغيرات التي حدثت على الصعيد العالمي. لعل إبرز تلك التغيرات تنامي الحركات الإسلامية المتطرفة تحت جناح القطب المعادي للشيوعية والتي بدأت تخرج عن سيطرته. بانهيار الاتحاد السوفيتي، وتهاوي القطب الثاني وفي إطار إعادة ترتيب العالم، كان لابد من مواجهة مد التطرف الإسلامي وضبط الحركات المتشددة. في ظل هذا الواقع بدأت مسيرة نظام الانقاذ، لتتعارض سياساته الخارجية مع اتجاهات السياسة الدولية، وكان نتيجتها تشديد الحصار عليه مما سيكون له انعكاساته المستقبلية واتجاهات التغيير القادم.

من أهم مظاهر التغيير والتي لم تلازم مسيرة النظامين السابقين هو انقسام الإسلاميين على انفسهم، وهو ما لا يقارن بانقسام الحزب الشيوعي الذي بدأت ملامحه ما قبل انقلاب مايو وبلغت حدته أثناء خيارات المشاركة من عدمها، لينفذ الضباط الشيوعيون انقلابهم في يوليو 1971، وتحدث القطيعة بين نظام مايو والشيوعيين رغم مشاركة بعض الذين انشقوا عنه لمرحلة أخرى من المسيرة. الفارق في الحدثين واضح، وهو تخطيط الجبهة الإسلامية للإنقلاب وتنفيذه بواسطة عناصرها في المؤسسة العسكرية ومشاركة عناصرها الأمنية والسياسية في ذلك.

الفارق الثاني هو استمرار الوضع على ما هو عليه رغم ما عرف باسم المفاصلة بين المجموعتين الإسلاميتين والتي خرج بموجبها د. حسن الترابي ومجموعته عن السلطة فيما بقي المؤتمر الوطني قابضاً على مفاصلها. الغريب في الأمر أن المؤتمر الوطني ظل يرسخ في الأذهان إستغرابه لمعارضته بعد تلك الخطوة بالرغم من أن شيئاً لم يتغير، فقد ظل هو قابضاً على السلطة ومتمسكاً بها أكثر، وما تغير هو أن جزءاً من الحركة السياسية الإسلامية كمجموع أصبح في خانة المعارضة إضافة لبعض المفكرين الإسلاميين.

ويأتي الدور الجماهيري، كعامل أساسي وحاسم في عملية التغيير بمؤسساتها الحزبية والنقابية ومنظماتها، مغايراً لدرجة ما لما ظلت تلعبه في مسيرة التغيير سابقاً. فقد استطاع الحزب الحاكم المسيطر على أجهزة الدولة ومؤسساتها إحتلال الأرض الحرام التي كانت تنشط داخل مساحتها الحركة الجماهيرية، بعد أن قلمت أظافر الأحزاب والنقابات والمنظمات التي يمكن أن تشكل خطراً عليها. بل ذهب في مرحلة ما إلى استنساخ أحزاب سياسية، موازية للأحزاب السياسية المعروفة، يشرعن بها وجوده ويكسبه لمسة تعددية زائفة فيما عرف بأحزاب التوالي السياسي. فيما ظل العمل السياسي المعارض، بعد تكوين قيادة التجمع الوطني في الخارج، مفتقداً بعده الجماهيري المؤثر.

العامل الآخر الذي ألقى بظلاله على مسيرة الإنقاذ وتوقعات التغيير هو توسع رقعة الحرب لتشمل مناطق جبال النوبة والنيل الأزرق، إضافة لجبهة الشرق العسكرية التي تعد فتحاً جديداً في ثقافة العمل السياسي المعارض في الشمال، بعد أن كان حكراً على الجنوب، ثم بعدها جبهة دارفور التي فتحت جرحاً ما خطر في بال حكماء المؤتمر الوطني بتداخلاتها المحلية والإقليمية والدولية.

ولأننا بصدد الحديث عن الفترة الأخيرة لمحاولات التغيير عسكرياً، فقد كان للجنوب القدح المعلى في تصعيد الكفاح المسلح طويل الأمد ولأسباب ثقافية وجغرافية مساعدة، إذا استثنينا الإنقلابات العسكرية المضادة قبل وبعد (الإنقاذ) والحركات المسلحة المحدودة قبل (الإنقاذ). وما هو أكيد أن الكفاح المسلح، برغم العثرات والعقبات التي واجهته، وأنه لم يصل إلى غاياته، أفرز واقعاً سياسياً واجتماعياً مغايراً -بدرجة ما- عن ما كان عليه قبل الإنقاذ. لكنه واقع يصعب ضبطه ووضعه في سياق تطور إيجابي لعمليات التحول السياسي والاجتماعي التي تفرزها الثورات المسلحة ذات الأهداف والبرامج الواضحة، حيث تبدأ عمليات التحول من بنية الدولة وأجهزتها التي تدار معركة التغيير بواسطتها.

بالرغم من ذلك اخترقت قوانين الكفاح المسلح قواعد اللعبة السياسية في السودان، ونجحت في الضغط على النظام إلى لتفرز واقعاً جديداً خاصة مع اتجاهات القوى الدولية ومحاولاتها إيقاف نزيف الحرب الطويلة الأمد في الجنوب. ونجحت تلك الضغوط الدولية في فرض اتفاقية السلام الشامل التي أحدثت إختراقاً مهماً على مستوى التغيير السياسي وإن لم يرق إلى مستوى التغيير الذي يلبي تطلعات الجميع ليكتفي الشريك الأصغر بحكم الجنوب. ثم جاءت اتفاقية أبوجا ومن بعدها اتفاقية القاهرة ثم اتفاقية الشرق لتضيف محاولة إختراق آخر في جدار التغيير، ولكنها محاولة هشة بدليل استمرار الحرب في دارفور، وعدم تحقيق بنودها.

ولعل الواقع الجديد تتمثل أهم إنجازاته في إيقاف الحرب في الجنوب التي استمرت طويلاً، وهو ما يعد إنجازاً مهماً مع الأخذ في الاعتبار الفشل في الوصول لتسوية سياسية في دارفور تقود لوقف الحرب هناك. أم الإنجاز الثاني فهو إقرار الانتخابات كوسيلة للتغيير والتحول الديمقراطي، والتي لم يف المؤتمر الوطني حتى الآن بكل استحقاقاتها بما يطمئن القوى السياسية الأخرى في نزاهتها وشفافيتها.

الانجاز الثاني يتمثل في منح حق تقرير المصير للجنوبيين بموجب استفتاء بانتهاء الفترة الانتقالية، وهو ما لم يحدث في النظم السابقة، وهو ما سيحدد ملامح الوحدة وتوقيتها إذا استوفت الأطراف استحقاقاتها، أو ستقود إلى واقع مغاير بانفصال الجنوب وتكوين دولتين.

لكن أهم معالم الواقع الجديد فهو الفترة الانتقالية والتي ظلت تلعب دوراً مهماً في مسار التغيير. فإذا جاءت الفترة الانتقالية بعد ثورة اكتوبر وسقوط النظام العسكري الأول دون مشاركته، لفترة ستة أشهر لتهيئ للانتخابات، وجاءت الفترة الانتقالية الثانية لمدة عام عقب سقوط نظام مايو بانتفاضة أبريل الشعبية وصاغت ملامحها القوى السياسية المعارضة، فقد جاءت الفترة الانتقالية الثالثة في إطار التسوية السياسية التي فرضتها اتفاقية نيفاشا وشارك في تحديد ملامحها المؤتمر الوطني كحزب حاكم وطرف أصيل، مع ملاحظة الفرق الكبير بين الفترة الزمنية والتي ستمتد في الأخيرة لست سنوات.

هل استسلم المؤتمر الوطني، المتحكم في مفاصل الدولة، لهذا الواقع؟ أم ستنجح الضغوط الداخلية والخارجية في ترويضه للقبول بواقع التغيير؟
الوضع الذي يكشفه الواقع هو محاولة التفاف المؤتمر الوطني المستمرة على كل محاولات التغيير التي من الممكن أن تبعده عن السلطة. ولعل أخطر إفرازات الكفاح المسلح وغير المسلح التي لم تصل لغاياتها هو محاولاته الترسيخ لنظام سياسي يضمن له البقاء الدائم في السلطة، ويحافظ على دولته القابض على مفاصلها بشكلها الحالي وبالتالي المحافظة على مصالحه. وهو نظام سيحاول أن يحصر فيه دور الآخرين (باتفاقيات أو دون اتفاقيات وبضغط التوجهات الدولية) دور مسمار التنفيس. أو هو أشبه بالنظام السياسي في بعض الدول الذي يقوم على تعددية لا تؤثر في سيطرة الحزب الحاكم، متجاهل التركيبة الجغرافية والاجتماعية والثقافية الأكثر تعقيداً للسودان مما سيزيد من تعقيدات الوضع السياسي مستقبلاً.

في مقابل ذلك هناك عدة خيارات أمام القوى السياسية المعارضة للمؤتمر الوطني. الخيار الأول هو تحالفها مجتمعة وفقاً لبرنامج واضح المعالم يخاطب القضايا الأساسية للوطن والمواطن، يقود إلى فوزها في الانتخابات القادمة وإعتبارها الأداة النضالية المتاحة، ومن ثم إلى إعادة بناء الدولة بما يحقق التحول الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة والاستقرار السياسي، أو إتباع المنهج القديم في تقديم المصالح الحزبية على المصالح الجماعية ما يعني إستمرار المؤتمر الوطني في السلطة عبر الانتخابات مما يمنحه الشرعية التي يسعى إليها عن استحقاق. أما الخيار الثالث أن يرضخ المؤتمر الوطني القبول بتشكيل حكومة إنتقالية يكون مساهماً فيها بقدر الآخرين، للعبور بالبلاد من أزماتها المزمنة.

الداعي لكل هذه القراءة هي بعض الحقائق التي لا يمكن تجاوزها، أولها قبول القوى السياسية بمختلف توجهاتها -عدا حركات دارفور التي لا تزال تحمل السلاح- العمل تحت ظل هذا النظام السياسي الذي أفرزته إتفاقية السلام الشامل، والموافقة على دستوره بإستنادها عليه حتى في دفوعاتها حول شرعية الحكومة من عدمها، وكذا العمل تحت ظل قوانينه برغم إجازة معظمها بالأغلبية الميكانيكية التي خولتها الاتفاقية للمؤتمر الوطني.
ما هو واضح أن التغيير القادم لن يكون بلون وطعم ورائحة سابقيه، ورغم نجاحهما في إحداث فعل التغيير، إلا أننا لا نريد له أن يقود إلى ذات النتائج التي تعيد الأزمة إلى مربعها الأول مرة أخرى، خاصة في ظل المعادلات الجديدة بشروطها الذاتية والموضوعية المختلفة عن تلك التي حكمت تلك النتائج.

 



Source: www.tahalof.info


رأي ـ تعليق  



هل قرأت المقال اعلاه؟   
اكتب    
 
 
 
 
 
  
site created & hosted by