# # # #
   
 
 
[ 21.07.2009 ]
قراءة في دفاتر التغيير 1 من 2 ـ أمير بابكر عبدالله


بقراءة لظروف وآليات ومآلات التغيير السياسي التي حدثت إبان فترتي حكم الفريق عبود، التي انتهت بثورة اكتوبر الشعبية في العام 1964، وحكم نظام مايو الذي كتبت نهايته على إيادي الشعب السوداني في انتفاضة مارس إبريل 1985، تبدو لنا مآلات التغيير السياسي القادم مختلفة المظهر والجوهر في ظل الشروط المختلفة التي تحكم حركته وتضبط إيقاعه.

الفترتان السابقتان تشابهتا في نهاياتهما في بعض الملامح، وإن اختلفتا في كثير من التفاصيل ابتداءاً من بداياتهما ومروراً بمسيرتهما قصيرة سنواتها أو طويلة. فالأولى لم تصبغها رائحة إيديولوجيا وإن لم تخل من رائحة الحزبية والمؤامرة على النظام الديمقراطي، وتولت السلطة فيها قيادة الجيش برئاسة الفريق عبود ولفترة امتدت لأكثر من ست سنوات. بينما الفترة الثانية كانت ذات طعم ولون ورائحة إيديولوجية. وإن استولت على السلطة عبر ذات الآلية إلاَّ أنها جاءت في ظروف وتطورات سياسية مختلفة أكثر حدة من تلك التي سبقت الفترة الأولى. فإذا جاء الحكم العسكري الأول بما يشبه التسليم والتسلم نتيجة العجز الذي صاحب الأداء السياسي للحكومة الديمقراطية، فقد جاء الثاني إنقلاباً صريحاً على النظام الديمقراطين المأزوم حينها، برؤى وأهداف وبرنامج واضح المعالم يحمل بين طياته معالم سلطة ونظام حكم إيديولوجي بزي عسكري.

هناك عدة محاور ساهمت في تغيير فترتي الحكم العسكري الأول والثاني، على رأس تلك المحاور يأتي النضال الجماهيري المتواتر. فالحركة الجماهيرية ظلت بين مد وجذر طوال فترتي ذلك الحكم اوله وثانيه، تدعمها رؤى الأحزاب حسب قربها أو بعدها من النظام الحاكم وقتها. هذا غير المحاولات الانقلابية المتعددة من داخل المؤسسة العسكرية، التي انتهت إلى ميادين المحاكم العسكرية إعداماً وسجناً لقادتها. ثم حرب الجنوب، ذلك المحور الذي مثل معاملاً ثابتاً مشتركاً كوسيلة دعمت التغيرات السياسية سواءاً إلى إنقلابات أدت لنظم شمولية أو إلى ثورات قادت إلى حكومات انتقالية ومن ثم نظم برلمانية.

وما لا يمكن إغفاله في أثناء تلك المسيرة هو البعدين الدولي والإقليمي سواءاً في البدايات أو أثناء المسيرة أو في النهايات، ولم تكن قد تبلورت بعد اتجاهات العالم الجديد والعولمة والقطب الواحد، بل كان العالم الخارج من أتون الحرب العالمية الثانية ونيرانها لينعم بحرب باردة لتديرها الاقطاب، التي أعادة توزيع خارطة نفوذها، عبر آليات مختلفة تدخل ضمن خطط معاركه فيها تلك الدول الخارجة من مرحلة الاستعمار لتوها، وتلك التي تدور فيها الحروب الأهلية وتتنامى فيها حركات التحرر الوطني.

ويمكن ملاحظة البعدين الدولي والإقليمي أثناء مسيرة فترة الحكم الديكتاتوري الثاني في صورة أكثر وضوحاً وتجلي، والحرب الباردة متصاعدة إلى أعلى قممها، والقطبان الدوليان يتجاذبان اطراف العالم وكلاهما لا يدَّعي أن هذا إبنه فيخاف عليه، وتدور في فلكهما المحاور هنا وهناك.

إذاً الحكم العسكري الأول انتهى بثورة شعبية قامت على إثرها حكومة انتقالية مدتها ستة أشهر (إن لم تخني المعلومة)، لتعقبها انتخابات عامة تجيء بحكومة منتخبة بواسطة نواب الشعب، ويعاد انتاج الأزمة. وذات المشهد يتكرر مع الحكم العسكري الديكتاتوري الثاني (نظام مايو) الذي جاء سفر خروجه مشابهاً للأول، إثر انتفاضة شعبية تواصلت على مدى أكثر من اسبوعين، أعقبتها حكومة انتقالية وهذه المرة بشقين عسكري ومدني في مساومة تاريخية بعد انحياز الجيش لخيار الشعب ولمدة عام كامل. ثم انتخابات عامة تأتي بحكومة منتخبة من نواب الشعب تعيد الأزمة مع سبق الإصرار والترصد.

المشهدان السابقان حكمتهما ظروف متشابهة إلى حد بعيد، وربما جاء المشهد الأخير مشابهاً لتلك البدايات ذاتها وبذات الحيثيات الواردة في كلا البيانين الأولين السابقين. فقط هناك امر مهم يجب وضعه في الحسبان هذه المرة، فهو الذي سيلعب دوراً مهماً أثناء المسير ومؤثراً في مآلات التغيير القادم. ذلك الأمر هو البعد الدولي وإعادة ترتيب العالم مرة أخرى بعد انطفاء شعلة الحرب الباردة، والتي اكتشف الناس معها أن نبي العالم الشرقي قد مات منذ زمن بعيد، لكنه بقي مستنداً إلى عصاه التي نخرها السوس وبمجرد هزها تهاوى متساقطاً. ليستيقظ الناس على واقع جديد ويختل توازن العالم، وأمريكا هي من يوجه دفة العالم.

وسط هذا الطقس العالمي جاء الانقلاب الثالث على النظام الديمقراطي الثالث، في حين تشابهت الظروف الداخلية في ظاهرها وتشابهها وإن اختلفت في جوهرها مع نهاية كل نظام ديمقراطي. التسيب السياسي وعدم القدرة على التعاطي مع القضايا الكبرى وعلى رأسها التنمية المتوازنة وإعادة هيكلة الدولة الموروثة من الاستعمار هو ما لازم أداء (حكومات تلك الفترة)، الأمر الذي كان سيقطع الطريق أمام تطلعات أي حزب في الهيمنة على مفاصل الدولة، وكأنما كل حزب أو أحزاب- يأتي إلى سدة الحكم يسعى للمحافظة على الوضع على ما هو عليه دون أن يمس هيكل الدولة وإعادة ترتيبها، بحيث تخرج من كبوتها وتكون قادرة على النهوض بمشروع الدولة الوطنية والسير به في طريقه الصحيح. وهو وضع مريح طبعاً، لا يحتاج لكبير عناء ولا تضحيات ولا تنازلات جوهرية لا على مستوى بنية الأحزاب، ولا على مستوى بنية الدولة التي تحقق بشكلها الموروث مصالحها.

اما العامل أو القاسم المشترك "حرب الجنوب" فقد ظل على الدوام ملازم لمسيرة التغيير كما ذكرت سابقاً سواءاً في العهود الديمقراطية أو حكومات الانقلابات العسكرية، وتكاد تكون العامل الثابت في معادلات التغيير. فإذا انطلقت الحرب هناك من قبل إعلان الاستقلال، فإنها ظلت مستمرة في كل حكومات ما بعد الاستقلال، وإن توقفت مرة لأخذ أنفاسها من أجل أن تبدأ من جديد.

إذاً جاء الإنقلاب الثالث في ظل معطيات دولية وداخلية تختلف في بعض جوانبها عن تلك التي صاحبت الفترات السابقة، وهو ما سيسم بطابعه مسيرة مختلفة في كثير من جوانبها، ذاخرة بقضايا سكت عنها زمناً طويلاً، واحتقانات تفجرت، وصراع تنوعت أسلحته وتعددت. ليتخذ طابع التغيير القادم شكلاً نرجو أن نستبين ملامحه بقراءتنا لتلك المسيرة وما حولها، والتي قادت حتى الآن إلى ذروات لفصول مختلفة، كلما شارف فصل على الانتهاء، ويبدأ الناس في إخراج زفرة ارتياح، يبدأ فصل جديد يكاد يأخذ بالأنفاس حتى يتراجع إلى نهاياته.


 



Source: www.tahalof.info


رأي ـ تعليق  



هل قرأت المقال اعلاه؟   
اكتب    
 
 
 
 
 
  
site created & hosted by