# # # #
   
 
 
[ 10.05.2009 ]
العقل القاهر .. المسيرة ـ أمير بابكر عبدالله




استعرضنا في المرة السابقة، وفي إطار توصيفنا للعقل القاهر، بعض الخصائص والصفات التي وسمناها به. ويمكن إضافة العديد منها بما يتسق ومنهجه في التعاطي مع العديد من القضايا والذي يتسم بالقهر والتسلط، وسيتضح ذلك اثناء استعراضنا لمعالجته للعديد من تلك القضايا، وكذلك أثناء سياحتنا في تلافيفه للوقوف على منابع تغذيته والقيم والمفاهيم التي شكلته. هذا قطعاً سيحيلنا إلى عدة ملفات، من الواجب إخراجها من أضابيره وقراءتها بحذاقة والاستعانة برؤية ثاقبة ورؤيا تلهمنا قدرة استكشافية قد تكون مستحيلة بالقراءات الاعتيادية.

التاريخ الموغل في القدم، حسبما اشتغل عليه علماء الآثار والمهتمون بعلم الإنسان (الأنثروبولوجيا) وحتى المؤرخين، لا يتيح لنا قراءة حقيقية لتاريخ الشعوب في جوانبه الاجتماعية والثقافية والعقائدية. لكننا نقرأه عبر بوابة المدافن الملوكية التي فك طلاسم رموزها أولئك العلماء عبر مجهودات كبيرة وتجريبات دافعة للمجهود العلمي، وهي قراءة لا تتجاوز (إلا قليلاً) سيرة تاريخ الملوك والأسر المالكة لما خلفته من آثار ننظر إليها بعظمة وفخر كمنجز انساني تاريخي. لكن في إطار تلك الكشوفات الكبرى تنطمس سيرة الشعوب وتاريخها، وهي من قام على أكتافها كل ذلك الإنجاز. هي قراءة الموتى الملوك دون شك تلك التي تغيِّب وتطمس ذلك، وإن دون قصد. ذلك ما هو متاح، استنطاق الحفريات ومحاولات ربطها بعصور متقدمة.

تلك الجداريات والمصورات تشي بالطابع الملوكي، كما تحكي تاريخ الملوك والعظماء، وتكشف اعتماد تلك الممالك في مراحل متعددة على الكهنة والعسكرية في تدبير أمورها، خاصة في ما يتعلق بالمحافظة على الملك داخلياً وفي حالات التوسع أو الدفاع. الكهنة والعسكريون يأتون في المرتبة التالية بعد الملوك والأمراء، ويمكن إيجاد شواهد أثرية لذلك، بل وجدت. لكن ما ظل غائباً هو طبيعة الحراك الاجتماعي التحتي الذي تقوم عليه تلك الممالك وتفاصيل من يخدمها.

إذاً ظل الطابع الملوكي والتقاليد الدينية والحرب لازماً مميزاً منذ ذلك الأمد، ذلك الطابع وتلك التقاليد والحروب التي تسللت إلينا عبر ردهات المدافن، فنحن من تلك السلالة خرجنا من بين صلبها وترائبها. وخلال مسيرة تمتد طويلاً في التاريخ يتشكل ويتكون العقل القاهر، متأثراً بتصاعد وهبوط وتيرة الحراك الاجتماعي الذي بدوره تأثر بعوامل كثيرة عبر تلك المسيرة. تتشكل ممالك وتتحلل ليعاد إنتاج أخرى، تحدث هجرات هنا وهناك ويعاد تشكيل المجتمعات وفق قواعد جديدة، ويختلط صلب وترائب بأخرى من هنا وهناك تنتقل معها ذاكرتنا التاريخية والثقافية إلى مرحلة أكثر وضوحاً خلال إعادة صياغتها وفقاً لمحدثات القواعد. لكن القاسم المشترك بين كل ذلك هو ذلك الخيط الغليظ الذي تنتظم حوله القيم المفاهيم والاتجاهات السلوكية، أو هو يعيد انتاجها بحيث لا تخرج عن طوعه. وهذا الخيط الغليظ (تفتله) تلك المنظومة الثلاثية:

أولها الطابع الملوكي الذي يتجلى في أشكال ومسميات مختلفة عبر التاريخ، فهو مملكة مرة أو سلطنة في أحوال أخرى أو جمهورية اشتراكية ديمقراطية ليبرالية، هي السلطة. والسلطة عند العقل القاهر لا تخدم الدولة، وإنما تطوع كل مقدرات الدولة لخدمتها، لذلك دائماً ما تزول الدولة (المملكة أو السلطنة أو حتى الجمهورية) بزوال السلطة. ولكن تظل القيم والمفاهيم والاتجاهات السلوكية التي أنتجتها مرتبطة بالقادم الجديد. فالتاريخ يروي لنا كيف تنشأ الدولة ببسط السلطة نفوذها على رقعة جغرافية بمحتوياتها المادية والبشرية، ثم تؤسس منظومات إدارتها بناءاً على ذلك، ومنظومات إدارتها ليست مجرد مؤسسات بل حزمة محددات عقائدية وفكرية تخدم مصالحها. وهي لطالما بدأت بالمظهر العشائري، ثم تتمدد بفعل عوامل متعددة أو تنهار نتيجة مؤثرات داخلية أو خارجية.

ثانيها التقاليد الدينية؛ الجزيء الثاني من المركب الثلاثي وهو اخطرها على الإطلاق. مكمن خطورته نابع من قدسيته التي كثيراً ما استخدمت لإضفاء الشرعية، بل القدسية على الحكام ومناهج حكمهم. ومن خلاله يمكن إعادة صياغة القيم والمفاهيم بحيث يحافظ المجتمع على تناغمه وضبط إيقاعه مع كل مرحلة يحافظ فيها الكهنة على معابدهم، بل ربما يتجاوزون أحياناً دور الكهانة ليمارسوا سيطرتهم على الحكم بسيطرتهم على الحكام. تاريخ التطور الاجتماعي الإنساني يستصحب الدين كنسيج لا يمكن الفكاك من غزله، وكثيراً ما مثل عاملاً استنهاضياً هادفاً للتغيير الإيجابي في حياة الشعوب، لكنه يبقى في أروقة العقل القاهر أداة تعضد أركان السلطة والتسلط وإخضاع المجتمع لمصالحه.

السلطة في عرف العقل القاهر لا تستطيع انتاج وتوطيد سيطرتها بالقمع والعنف لوحدهما، لذلك لا بد من استعانتها بالدين غلافاً لقيمها وتلوين الأجهزة المختلفة المكونة لبنية الدولة بذلك، لإضفاء الشرعية المقدسة على العنف. ومن جانب الآخر فطبيعة العقل القاهر التوافقية وحين فشله في عقلنة ما يواجهه من مشكلات أو إيجاد حلول لمشكلاته المادية سرعان ما يلجأ لتوفيق أوضاعها غيبياً في إطار تفسيراته (المصلحية) للدين.

غير دوره في المحافظة على القيم والمفاهيم والاتجاهات السلوكية للعقل القاهر، ظل الدين –عبر مسيرة المجتمع- يلعب دوراً كبيراً في تعضيد أركان السلطة اقتصادياً ليس عبر طرح نظريات اقتصادية في التنمية وإعلاء قيم التكافل والتضامن كقيم إيجابية، ولكن عن طريق إخضاع الشعوب سخرةً، تخدم لتمتلئ خزائن الملك ويحافظ الكهنة على وضع مالي مميز.

وثالث جزيئات المنظومة المركبة هو العسكرية والحرب؛ وهي لا فكاك منها في قراءتنا للتاريخ المصاحب لنشوء وإرتقاء الممالك وفي أسباب زوالها. عادة ما يكون رأس الحكم ملكاً أو سلطاناً هو المتصدر لمجلس حربه المكون من قادته العسكريين وكثيراً ما يقود أشرس المعارك بنفسه.

للحروب دور مهم في المسيرة التي شهدتها مجتمعاتنا منذ ما قبل التاريخ، وهي مسيرة في أكثر منعطفاتها سالب، إذ لم تشهد تطوراً على مستوى القيم والمعتقدات والمفاهيم وحتى الاتجاهات السلوكية في بنية العقل القاهر. على العكس تماماً فالحروب ساهمت في تعضيد أركان تلك البنية عبر إفرازاتها وتداعياتها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. فالحرب على مستوياتها المختلفة، سواء على المستوى الداخلي أو على المستوى الخارجي، دائماً ما تعيد انتاج الأزمة بدلاً من إحداث التغيير المنتصر فيها هو العقل القاهر.

هذه المنظومة المركبة المنتجة لقيمها ومفاهيمها ساهمت بشكل أساسي في تشكل العقل القاهر، الغير قادر على مواجهة الواقع والاعتراف بفشله في إيجاد حلول للمشكلات المادية بمنهج تحليلي واستسلامه لوهم قدرته على المحافظة بقائه بمزيد من القهر. وسنحاول عبر تطبيقات متعددة، نواصل فيها المضي في سبر غور أزمته، استكشاف تلك القيم والمفاهيم والتي قادتنا إلى توصيفه بتلك الخصائص الواردة في المرة السابقة، والحديث عن القيم المقابلة المنتجة في إطار التطور المستمر للمجتمع. وفي إطار ذلك سيجيء الحديث عن إشتداد إوار المعركة وبدايات تحلل العقل القاهر.



Source: www.tahalof.info


رأي ـ تعليق  



هل قرأت المقال اعلاه؟   
اكتب    
 
 
 
 
 
  
site created & hosted by