# # # #
   
 
 
[ 06.05.2009 ]
العقل القاهر ـ أمير بابكر عبدالله




تناولت في بعض كتاباتي ما أسميته بأزمة العقل القاهر، وجاء في مقدمات تلك الكتابات، أن ما قادني إليها واحدة من اكثر المسائل إلحاحاً، بل هي أم القضايا، هي كيفية التعامل مع واقع التعدد والتنوع الذي يتسم به السودان، سواءاً على المستوى السياسي أو الاجتماعي. ومن أي الزوايا ننطلق في التعامل مع هذا الواقع، خاصة مع محصلة تراكم الفعل الاجتماعي الثقافي المنجزة عبر قرون والمستمرة، بعد أن اختار لها المصير السياسي أن تواصل ممارسة تفاعلها الكيميائي داخل هذا المعمل بحدوده ومناخاته وبيئته.

فكثير من الدلائل تشير إلى أزمة  التفكير فيما يتعلق بكيفية التعامل المرجوة والمفضية إلى تناغم إجتماعي ثقافي داخل إطار هذا التنوع، وتُبرِز تجليات مأزق العقل القاهر على المستوى الجمعي والفردي ولعل أبرز هذه التجليات هو التناقض الداخلي الكبير بين تطلعاتنا وممارساتنا فيما يخص السياسي والاجتماعي والثقافي. وليس هذا بمستغرب بالنظر إلى آليات التراكم وأنابيب ضخ القيم والسلوك والمعتقدات والتوجهات، التي ربما أصابها الصدأ لتحيلنا إلى واقع التنافر هذا.

لكن ظلت فكرة العقل القاهر تقض مضجعي، آخذة بتلابيب تفكيري، لتشدني إلى أكثر من تلك المقالات التي تناولت فيها تجليات أزمته وتمظهرها في بعض المسائل الأكثر إلحاحاً على المستوى الاجتماعي والسياسي. الكتابة التي ابتدرتها عن أزمته، من وجهة نظري، تجاوزت التأسيس للعـقل القاهر معرفياً، أي كيف تكونً عبر قراءة تاريخية للمؤثرات الاجتماعية والنفسية؟ والعناصر التي ساهمت في تشكيل بنيته. وإذا جاءت الكتابة حول أزمته سابقة ذلك، فذلك لسهولة تلمس تجليات تلك الأزمة وكشفها. ومن إيجابيتها استداعاءها لأهمية البحث في مسيرته تاريخياً وتطورياً ووظيفياً، ومن ثم النظر في التعقيدات التي واجهته ودخوله مرحلة الأزمة وأسبابها، وبعدها استتنباط مآلاته، وإذا ما كان سيتجاوز أزمته أم ستودي به إلى الإنهيار.

أولاً يجب الاعتراف بصعوبة ومشقة البحث وراء تكوين العقل القاهر، لما يتطلب ذلك من صرامة منهجية تحيل الأمر إلى مستوى أكاديمي متخصص للبحث في أكثر من جانب، شيء سيبعث إلى الملل سأحاول تجاوزه بكثير من المرونة دون إخلال. لكنه لن يخرج من سياق التطور الاجتماعي وتراكم الفعل الاجتماعي، عبر مسيرة طويلة امتدت لقرون، إلى وقتنا الراهن الذي أشرنا خلال قراءات عديدة بأنه الآن في أعلى مراحل أزمته. النظر من هذه الزاوية هو المدخل الأمثل للإنطلاق إلى بحث مختلف قضايانا التي تؤرقنا منذ أمد طويل، مما يقودنا لطرح أسئلة مختلفة وبالتالي الحصول على نتائج وتفسيرات أكثر قدرة على ملامسة الواقع بالإجابة عليها. هذا يبعد عنا الكسل الفكري الذي نتقنه بدرجة امتياز، ويبعد عنا الاستسلام للإجابات والتفسيرات الجاهزة التي ندور حولها؛ ولا جديد.

هنا يلزم توصيف العقل القاهر، وتحديد بنيته الراهنة التي انطلق منها القطع بإشكاليته وأزمته، ومن ثم البحث في الماجريات والمؤثرات التي أدت إلى تكوينه. أولاً هو ليس فردياً –أي لا يتعلق بفرد محدد بمعزل عن الآخرين، وإن بدت تجلياته في طرائق تفكير فردية أحياناً. وإنما هو عقل جمعي محكوم بجملة قيم ومعتقدات وعادات شكل منهجاً للتفكير وخلق أدواته التي تناسب ذلك المنهج، وأفضى إلى تشكل آلية قياس اجتماعية ذات قطب أحادي، يحاول بواسطتها امتصاص أو قمع  أو تدجين كل القيم والمعتقدات الشاردة والغير متسقة مع بنيته ،وبالتالي منهجه، وإعادتها إلى داخل سياج مملكته، وبالتالي السيطرة عليها في سياق المحافظة على وجوده. ثانياً هو عقل غير سوي، لا يستقيم وطرق التفكير السليم ويناقض حقيقة الطبيعة البشرية التواقة للتواصل والتبادل والتعاون.

التطرق لخصائص هذا العقل وصفاته يخترق بنا سياج تلك المملكة، ويقربنا أكثر للنظر في مكوناته وكيفية تفاعلها، لتشريحه وتحديد تلك البؤر المطلوب توجيه خلطتنا السحرية لضربها، وتدمير الخلايا المسيطرة على إفرازات المكون القهري في اتجاهاتنا الفكرية ومناهجنا. ويمكننا تعداد بعض تلك الخصائص والصفات التي تمثل معياراً أساسياً نستند إليه في توصيفنا للعقل القاهر.

العشائرية؛ فهو يعمل وفقاً لآليات التفكير العشائري أثناء حراكه، وهو حراك دائري، لا يقوى على الخروج من محيطه، ورغم مظهر التواصل الانساني الذي يحاول إظهاره أثناء اصطدامه بما هو خارج محيطه العشائري، إلا أنه سرعان ما يكشف تخندقه وتمسكه ولجوءه للعشيرة وقوانينها وقيمها في اللحظات الفاصلة. والعشائرية هنا ليست بصورة مطلقة ذلك الانتماء القبلي فقط، بل حتى العشائرية الإيديولوجية.

الإنغلاق؛ فإذا كان العقل لدى هابراماس (أحد رواد مدرسة فرانكفورت الفلسفية) ليس مفهوماً مجرداً قائماً بنفسه، ولكنه دائماً مموضعاً في سياق اجتماعي إنساني تواصلي مستمر ومفتوح النهايات، فالتواصل الانساني المستمر ينطوي أصلاً على عنصر الإدراك المتعقل للأشياء. لكن العقل القاهر رغم وجوده في ذلك السياق الاجتماعي إلا أنه منغلق ومنكفئ على نفسه، ويفرز جملة من العوائق امام التواصل الإنساني الطبيعي ما يجعله يتعقل الأشياء وفقاً لمعاييره هو. وهو يرفض التفاعل الإيجابي مع خارج محيطه، ما يعني أنه ضعيف الصلة بالتطور.

الاستعلاء؛ وهو من الخصائص الأساسية للعقل القاهر، وتبرز في تلك الثقة المطلقة في قيمه ومعتقداته وعاداته التي يقرأ كل مظاهر الحياة بمنظارها، فكل ما يبثه هذا العقل من أفكار فهي حقائق غير قابلة للأخذ والرد. فهي قابلة للنقد والمساءلة والاعتقد بشموليتها وكمالها. ولا مجال داخل فضاءه لرأي آخر، فما يعتبره الآخر نواقص يفسرها هو بأنه أسيء فهم تلك الأفكار. وتمثل تلك الحقائق التي يدافع عنها دوماً درجة من الإكتمال لا تحتاج معه لدليل.

الميكافيلية؛ الغاية تبرر الوسيلة شعار مؤصل ومتجذر داخل بنية العقل القاهر، وهو يتحكم في طرق عمل آلياته في إطار تحركه داخل محيطه أو في علاقته مع الآخر. فالغاية هي بقاء الأمر على ما كان عليه والوسيلة ليست مهمة أن تتصف بأخلاقيتها أو عدمها. فمنظوره مختلف لهذه المسألة، فطالما غايته مشروعة ومتسقة مع مخرجات قيمه فلا ضير من استخدام كل الطرق وسلوك كل السبل لبلوغها. فهو سيختلق التبريرات الكافية لذلك طالما تمسك باستعلائه كصفة ملازمة له.

المراوغة؛ لا أجد أبلغ من وصف أحدهم له  بالمرونة "المكرونة": لكي تفهم هذا المبدأ الأساسي،  لابدّ من القيام بتجربة علمية سهلة ومعبّرة. خذ رطلا من مكرونة "السباجيت". غليّه ثلاث ساعات في الماء (إذا أردت أن تغتنم فرصة التجربة العلمية لتتغدّى، فعشرون دقيقة كافية كما يعرف حتى أردأ طبّاخ). حاول بعدها  أن تجعل "السباجيتي"  تنتصب واقفة، ولو بإسنادها على أي شيء صلب. ستكتشف استحالة الأمر لما اعتراها  من ليونة مفرطة وميوعة تامّة، تجعلها عجينة لا تنتصب واقفة وإنما تتمدّد وتنبطح وتلتصق بكل ما يحملها. وكذلك العقل القاهر يتسم بالمراوغة ولا يمكن الإمساك بطرف منه

العنف؛ القوّة ليست العنف، أن القويّ من يتحكّم في قوّته وليس من يفرط فيها ليخفي ما به من جبن  ومن ضعف وهو ما يتصف به العقل القاهر، فهو لا يترك باباً للصلح ولا للعدو منفذاً، وهناك قاعدة تقول إترك لعدوك منفذاً ولا تطوقه من الجهات الأربع حتى يجد منفذاً للفرار وإلا سيهاجمك بكل قدرته على تحمل قدر الموت. فالاعتماد على العنف غير الاعتماد على القوة، فالقوة بناءة والعنف هادم وعادة ما يستخدم في محاولات القهر والضعف. والعنف يتخذ أشكالاً متعددة وليس العنف الفيزيائي فقط، بل حتى العنف او الإرهابي اللفظي والفكري.

تلك بعض الخصائص والصفات التي يتسم بها العقل القاهر وهي ما سيقودنا إلى البحث في طريقة تشكله ومراحل ذلك وتلك القيم التي يتمسك به ويدافع عنها، ومن ثم الحديث عن مظاهر الأزمة التي تعتريه الآن، ما يمكننا من الإجابة على سؤال هل تمكن التطور الطبيعي والتواصل الإنساني من إحداث خروقات في جداره تقود لحتمية تحوله لعقل متصالح قابل للاستجابة لقوانين



Source: www.tahalof.info


رأي ـ تعليق  



هل قرأت المقال اعلاه؟   
اكتب    
 
 
 
 
 
  
site created & hosted by