# # # #
   
 
 
[ 03.04.2009 ]
الترابي .. الجنون فنون ـ أمير بابكر عبدالله




لبورتسودان، تلك المدينة الطارئة، سحرها. أما سواكن، تلك المدينة العتيقة، هي جنون السحر ذاته، لاشتهارها بتلك القصص الخرافية التي لا تجد الألباب لتاخذها، لأنها تكون قد أخذت بالأنفاس أولاً. والذي يقطع المسافة بين بورتسودان وسواكن، سواء راجلاً أو راكباً أو طائراً، يصاب بلوثة من ذاك الجنون دون أن يدري. إلا ساكنيها، فهم مدرعون لاكتسابهم مناعة تقيهم شر تداعياته التي تتبدى بوضوح في زائريها المؤقتين.

لاادري لماذا تملكتني هذه الفكرة، وأنا أقرأ ذلك الحوار المنشور في الجريدة الإلكترونية "سودانايل"، الذي أجرته الأستاذة رفيدة ياسين للشروق، "هل هي صحيفة أم القناة الفضائية"، مع الدكتور حسن عبدالله دفع الله عندما يتعلق الأمر بالمال وحسن عبدالله الترابي حينما يتعلق الأمر بالسياسة، أو كما قال المرحوم الخاتم عدلان في إحدى خطبه البليغة في ليلة سياسية أقامها الحزب الشيوعي إبان الديمقراطية الثالثة، وكان الخاتم حينها رمزاً من رموزه التي يشار إليها بالبنان، وأحد ضحايا سجن بورتسودان أيضاً.

قبل أن اوضح لك –عزيزي القارئ- إنني ضحكت كما لم أضحك من قبل أثناء قراءتي لذلك الحوار، الذي يضاهي أكثر المسرحيات الكوميدية، حتى كدت أنقلب على قفاي، رأيت العودة إلى مقدمتي. كم اخطأ السيد رئيس الجمهورية عندما امر قادة المعارضة السودانية، في إحدى خطبه، الاغتسال في البحر الأحمر قبل التفكير في العودة إلى السودان، متجاهلاً أن البحر الأحمر يمر أيضاً بمدينة مصوع. وهناك جنون يختلف عن بحرنا الأحمر.
لو فعلوا ذلك سيدي الرئيس لتلبستهم حالات جنون لا يحمد عقباها، ولآلوا لمصير غير هذا المصير الذي يعيشونه الآن. ويكفي أن أشير هنا إلى السيد الصادق المهدي، الذي ما أن ذهب إلى بورتسودان إلى أن تلبسته الحالة ليصف اتفاق تراضيه  مع المؤتمر الوطني بسفينة نوح محذراً من الطوفان إن لم يلجأ الجميع إليها. وقبلها وفي ذات المدينة كان قد ركب سفينة نوح وهو يتفق مع جعفر نميري، واكتشف أن بحر المالح ليس كفوران التنور حيث لا جودي تستوي عليه.

والآن نعود إلى تلك الكوميديا الترابية، التي تضاهي كوميديا دانتي الإلهية، فهي على الأقل لا تحتمل منطقة وسطى بين الجنة والنار، ثم إنها تبعث على الضحك وبعمق على عكس كوميديا دانتي. في بداية الحوار يقول الترابي إنه ما كان يتوقع الاعتقال بسبب تصريحاته للبي بي سي وروريترز ولاجهزة الإعلام الخارجية. ثم يعود في موضع آخر مجيباً على سؤال حول وقع إطلاق سراحه "ليقول بضحكته الساخرة التي يتميز بها انا تعجبت لاطلاق سراحي اكثر مما تعجبت لقرار اعتقالي لان هذا الوقت الذي قالت فيه المحكمة كلمتها واصدرت قرارها بتوقيف البشير ووقت اطلاق سراحي ليس الوقت المناسب فهو وقت من المفترض ان يتم اعتقالي فيه لا يتم اطلاق سراحي". لا أستغرب كثيراً لأنني ترعرعت في بورتسودانن وقطعت المسافة بينها ومدينة سواكن كثيراً، فهو يرى أن الوقت ليس مناسباً لإطلاق سراحه، ولم يتبق له سوى دعوة معتقليه للبقاء قليلاً.

ولنرى فناً كوميدياً آخر في متن ذلك الحوار الفكاهي حينما سئل:  هل تشعر انك وحدك الان؟
رد مقاطعا، ابدا لن اتكلم علي المستوي السياسي. ساتحدث عن الشعب اولا. فاهل بورتسودان الذي كنت معتقلا في بلادهم عندما علموا انني خرجت من المعتقل خرجوا في تظاهرة مؤيدة للقرار رافعين شعارات "اوكامبو حديد".

وقبلها بقليل قال عن تلقيه قرار إطلاق سراحه، "وحتي الطريقة التي خرجنا بها كانت غريبة فقد نقولنا بطائرة منتصف الليل وكانت زوجتي وابنائي في بورتسودان وقتها فجاءوا بي وحدي انا وبشير ادم رحمة الامين السياسي للعلاقات الخارجية للحزب والذي كان معتقل معي وتركو اسرتي وابنائي رغم ان الطائرة كانت خالية لكن تركوهم هناك ليعانوا في رجوعهم و الاغرب من ذلك انهم قاموا باخلاء المطار تماما والي هذه اللحظات لم اكن اعلم انه سيتم اطلاق سراحي". حسب علمي حتى الجن الساكن في الطريق بين بورتسودان سواكن يأخذ قسطاً من الراحة منتصف الليل، ناهيك عن أهل بورتسودان.

بدأت أشك في أصل الحوار وانا أتتبع ثناياه لتلك الروح المرحة التي انتابتني، فلا سبب يدعو للمرح في ظل الأزمات المتواليات وخاصة الأزمة المالية الدولية التي أعاني منها شخصياً رغم أن لا ناقة لي في مسبباتها ولا جمل. ويبدو أن حسن عبد الله دفع الله (عندما يتعلق الأمر بالمال) يعاني مثلي فهو يقول في ذلك الحوار: ليت كان لي اموالا كنت قد اشتريت ولو سيارة واحدة للحزب فالمؤتمر الشعبي كله لا يملك ولا سيارة واحدة". لا أقول شيئاً سوى الدعاء: اللهم إني أعوذ بك من الفقر وغلبة الدين وقهر الرجال.

ولكن تأخذني تلك الكوميديا الترابية بعيداً عندما يقول رداً على سؤال المحاورة: يري الكثيرين انك تسخر كل طاقاتك لمعاداة النظام فقط؟
هم يرتكبون جرائم كبار والاعلام هو الذي فضح جرائمهم وليس الترابي. فعندما اسافر الي الخارج يأخذني الخجل عندما يقول لي احد في الخارج انكم تغتصبون نسائكم بالمئات، وتحرقون الاطفال، وتقتلون 250 الفا من اهلكم. والذي فعل ذلك كله هو النظام السياسي. وانا قلت انني سياسيا ادينهم تماما وادين جرائمهم.

لأتوقف برهة عن الضحك فالذين يديرون النظام السياسي تربيته، هو من يقول ذلك لا أنا. وهاهي المحاورة تخرج منه ذلك عندما سألته لكن يقال ان خليل ابراهيم رئيس حركة العدل والمساواة هو الابن الشرعي لحزب المؤتمر الشعبي الذي ترأسه؟ يقول الترابي: خليل ابن المؤتمر الوطني وليس الشعبي وكلهم تربيتي البشير وعلي عثمان وغيرهم كثيرين.

وكما يقول المثل "إبن الوز عوام"، هل أجد تعبيراً اكثر من هذا لأصف به حال الترابي أكثر من هذا المثل في هذا الموضع؟
يبدو لي أن مفاصلة جديدة في الطريق، ولكنها مفاصلة من نوع آخر ستجمع بين الوطني والشعبي، سيكون ضحيتها أيضاً الشيخ حسن الترابي. فإذا كان خروجه الأول بسبب الضغط على السلطة لإبعاده عنها، ضغط جمع بين رغبة داخلية لجناح من الإسلاميين توافق مع رغبة خارجية، فإن خروجه الآخر سيكون برغبة جناحي الحركة الإسلامية رغم إنه يقول في ذلك الحوار عن خروجه من المعتقل: جاءت ضغوط من بعض البلاد الصديقة والبلاد الغربية اعتبرت اعتقالي سببا لتمارس به ضغطا علي هذه الدولة التي كرهوها قطر من الدول التي اسهمت في اطلاق سراحي.

وهناك الكثير المثير في ذلك الحوار، لكني أكتفي بالقول أن السبب في كل ذلك هو المسافة بين بورتسودان وسواكن المسكونة. فلتحذر الأنظمة الحاكمة الآن ومستقبلاً من اعتقال السياسيين أو سجنهم في سجن بورتسودان أو سجن سواكن إذا لم تستجب لمطلب عدم اعتقال أو سجن الأفراد لأسباب سياسية، حتى لا نرى مثل هذه الفنون.

 



Source: www.tahalof.info


رأي ـ تعليق  



هل قرأت المقال اعلاه؟   
اكتب    
 
 
 
 
 
  
site created & hosted by