# # # #
   
 
 
[ 10.03.2009 ]
عابدين محيسي، رحيل الوطنية رحيل الضوء ـ صديق محيسي





دمعة في اربعينه

s.meheasi@hotmail.com

 قبل موته بخمس ساعات كنا سويا في مؤتمر الحزب الشيوعي بقاعة الصداقة المطلة علي شارع النيل. كان ينتظرني إمام المدخل الرئيس لسور القاعة لنأخد لنا مكاننا في مقدمة الصفوف المخصصة للقوي السياسية، لم الحظ الموت الذي كان يختبيء  بين المدعويين متربصا بهذا الجسد النحيل، ولم يذهب تفكيري أصلا إلي إن الناس سيأتون فرادا وجماعات إلي وادمدني   يجهشون بالبكاء لهذا الحدث الجلل الذي زلزل الجزيرة من أدناها إلي أقصاها، وجعل أطيارها تصمت صباحا دون شقشقة، وأشجارها تطاطأ هاماتها، ويموت ظلها في تجهم شمس الردي الحارقة.
 
إيه يا زين العابدين شقيقي الذي رحل إلا من بنطال مزقناه وهو مسجي إمامنا مثل نائم سيتيقظ بعد قليل، ومفتاح سيارة وبضع  جنيهات لايزدن ولاينقصن وهاتف عليه أسماء أصدقاء لن يسمعوا صوته بعد الان.

كان مساء متشحا بالسواد يحمل في أحشائه الفجيعة ذلك الذي عاجلت فيه عابدين ذبحة كأنها خنجر مشع دخل بغتة في صدره، يسد مجاري أنفاسه سدا محكما، ويعصر قلبه المرهق عصرا، ليستسلم إلي اليد المشعرة السوداء يد الموت التي لافكاك منها.

من خارج قاعة الصداقة هاتف عابدين صديقه الوفي كمال أرباب في مدني يسأله عن وفد المدينة المشارك في مؤتمر الحزب  لتحيتهم والاحتفاء بهم، ولم ينس ان يوصيه بان يسعي للحصول علي شريطي فيديو عن تأبين احمد خير في مدني كان وعدني  إن يعطينهما لاستفيد منهما في  كتاب  شرعت في تجميع   مادته عن احد أهم رواد الحركة الوطنية  في السودان,  عابدين ذلك المسكون  بالسودان  هو الذي كان وراء  فكرة  تأبين احمد خير  وكان يريدني  إن اطلع علي كلمات  هامة  قيلت  في الراحل  الكبير,  منها  كلمة ابريل الير القاضي  الصغير  في خمسينات القرن الماضي .

من داخل القاعة  أيضا سارع  وكتب  برقية تهنئة  باسم  حزب  التحالف  الوطني  ليذيعها  عريف الحفل  ضمن الأحزاب  والهيئات  المهنئة,  كان عابدين كتلة من النشاط   يريد إن  يستوعب الزمن   كله   في معني   أنساني  نبيل واحد هو  معني السودان  المدني  الجديد  الذي طالما  عمل  علي  إكمال بنيانه مع  حزبه التحالف   الوطني . 
في الساعة الواحدة  والنصف  بعد الظهر  قلت  له دعنا  نذهب  بعد  إن تحول الاحتفال  إلي غناء , وإمام باب القاعة المفضي  إلي الخارج   لحق  بنا الصديق كمال الجزولي معاتبا علي المغادرة السريعة,  وهناك التقينا  بعبد الله علي إبراهيم  والباقر العفيف  وأخذنا  نتحدث  في أمور شتي  وكان الراحل  يصغي  دون إن يشاركنا  الثرثرة.

حتي  ذلك الوقت  لم  أكن المح علي  وجهة  إعياء أو شحوبا,  إلا  ذلك  السواد  الخفيف  الذي يعلو  جبهته  كخريطة  تمتد  خطوطها  حتي  إطراف  عينيه , وتلك  الابتسامة  الوقورة  التي تنم عن  حياء  خجول حتي في  عز فرحه .

 حتى ذلك الوقت وقت فراقنا ,كان  كل شيء  في جسده  ينبض حيوية, تواعدنا  إن نلتقي  قبل حلول المساء  في  كافوري  لأعرف راية  الهندسي  في بيت متواضع شيدته هناك, ومن كافوري  ودعته لنلتقي مرة أخري مساء  في امدرمان, لكن ذلك اللقاء  كان في مستشفي بحري الدولي , ألفيته  ممدا  غارقا في غيبوبته يعمل فيه الأطباء  ما استطاعوا  من جهد  لمنعه  من الرحيل مبكرا, ولكن يد القدر  كانت سباقة  ففاضت روحه  إلي بارئها  في مستشفي بحري الحكومي  فجر الأحد  الخامس والعشرين  من يناير  الماضي  منهيا  رحلة  طويلة  صارع   فيها كأشجع ما يكون الصراع الطغيان  بكل إشكاله مما عرضه  في بداية  نظام  الإنقاذ  إلي بيوت الأشباح  التي كان فيها مقيما  لشهور عدة.

خرج عابدين من المعتقل ليجد مكتبه الاستشاري في مدني  قد  نهب، وسيارته التي أخذت  منه عنوة  قد خربت, اعتقل عابدين    ومجموعة من  مناضلي مدني  لأنهم  واجهوا نظاما شرسا أشهر العنف  في وجوه  الجميع  كفزاعة ( إسلامية ) لكل من يقول لا للديكتاتورية الجديدة كانوا هم القليلون  الذين فعلوا  ذلك  في وقت تواري  فيه الكثيرون  عن المواجهة,  لم يكن لعابدين  حزبا عندما اعتقلوه وحتي عندما انهمك  لؤما المحققون معه  لانتزاع اعتراف منه عنوة  إلي أي حزب  ينتمي، كان  يرد عليهم  بشجاعة وجسارة بأنه لا يمثل إلا نفسه , وحين بلغني  نبا اعتقاله , ونقله وزملاؤه  إلي الخرطوم  سارعنا  إلي  الاتصال  باللجنة الدولية لحقوق الإنسان, ومجلس العموم البريطاني الذي  عرض  قضية اعتقالهم  مطالبا النظام  في الخرطوم  بإفراج عنهم  فتم  ذلك  اثر ضغوطات  كبيرة   وفعالة  مورست  علي العصبة الحاكمة.

 في عام 97  وجدته  قد وصل الدوحة في زيارة  يرتاح فيها  من رهق الاعتقال وداء السكري اللعين، كنت يوم ذاك  قادما من لندن  لتجديد الإقامة في قطر بعد  إن أصدرنا  صحيفة الفجر المعارضة هناك، إصر عابدين  علي إن يذهب معي إلي اريتريا  للقاء  التجمع الوطني للتنسيق  معه  في تجمع  واد مدني , غير إنني ووجهت  بأن هذه الزيارة   تلك ربما تقوده  مرة أخري  إلي بيوت الأشباح  عند  عودته  إلي الخرطوم  واكتشاف امن المطار بان علي جوازه  ختم دخول  إلي اريتريا     تفاديت ذلك  بان اتصلت بالصديق فتحي الضو  المعارض المقيم سنوات هناك  والذي  اتصل بدوره بالأصدقاء الاريتريين  بأن لا يختموا  سمة الدخول علي جوازه  بعد إن علموا انه  معارض  قوي  للنظام ,و صلنا سويا إلي  اسمرا  واستقبلنا في المطار  الصديق العزيز  فتحي   والذي  رافق الراحل  خلال أيامه في اسمرا بعد  ذهابي إلي لندن.

قدمته للصديق المقاتل عبد العزيز خالد  رئيس قوات التحالف السودانية, كان ينوي فتح مكتب هندسي هناك  ويقيم  نهائيا  في اسمرا , غير إن الظروف  في  ذلك الوقت  لم تسمح  له بتحقيق رغبته تلك , شرع عابدين  في لقاء  قادة التجمع  من مختلف الأحزاب فألتقي  معظمهم  وتهرب من مقابلته ممثل حزب (ثوري) لشكه السخيف في  إن عابدين ربما يكون رجل امن بعثه  النظام  ليسترق  السمع  إلي إسرار (المناضلين).
 
 كان ذلك مؤلما جدا  عليه  ولكنه تجاوزه  ببعد  نظره  وثاقب بصيرته, من هناك  انضم عابدين إلي تنظيم التحالف  السوداني    حتي عاد إلي الوطن ليختاره التنظيم بعد  إن تحول إلي حزب عضوا  في مكتبه التنفيذي وممثلا  له  في لجنة القوي السياسية. انهمك عابدين من أول وهلة  في عمل سياسي  جاد  ودءوب  وهو الذي  تجاوز الستين عاما  متفوقا  علي ضعف  بنيته, وغير أبه  بمفاجئات  القلب القاتله, كان كل همه,  إن يترجم ما يؤمن به  من أفكار  إلي واقع مادي حتي لو أدي ذلك  إلي موته,  يذهب صباحا  ليحاضر  في جامعتين  وينهي يومه  مساء  باجتماعات لا تنتهي  في الخرطوم  والخرطوم بحري وفي أي مكان بالعاصمة  ثم  يهجع  إلي سرير نومه  بعد  منتصف الليل  خالعا عنه بنطاله  وقميصه  اللذين  مزقناهما عن  جسده البارد  ليلة  مغادرته  الدنيا  وهو مسجي إمامنا  كجندي  يخلد  إلي  راحتة  الأبدية  بعد  حروب  متواصلة  من اجل وطن  جديد.

أناس كثيرون مثل عابدين يغادرون الدنيا بلا جلبة,  أو ضجيج,  و لا يلحظ احد   تضحياتهم الصامتة  وصنعهم  في كل لحظة  للأمل  لملايين  ألجوعي  والحائرين  في إرجاء بلادنا.

 إن  التضحية  بالزمن والأفكار هي  أثمن من التضحية بالمال  الملوث  الذي يبغي  صاحبه المصلحة  الذاتية, وليس كريه علي النفس  من  إيثار  يجيء بعد  إيمان كاذب, ومن صدق  يخر من  جنباته  الشك, ومن بطولة   تسقط  في بداية النزال,  ومن حب زائف  يحمل في تضاعيفة  الكراهية  بوجهها الكالح ,  ومن أمانة  تستر عورتها  بالخيانة.
  
غادرعابدين الدنيا  وهو المهندس البارع  الذي شيد  عشرات المنازل  والمشروعات  للآخرين  دون إن يشيد لنفسه حجرة واحدة,  كان حتي رحل  يسكن في بيت للإيجار لم يكن ذلك من أولوياته , فهو حتي فارق الحياة  كان يعتقد إن  العطاء  للناس  هو الرسالة  التي عليه  التبشير بها  والعمل علي تحقيقها ,وان العطاء لنفسه يولد الأنانية ويفسد  الطبع والطبيعة, كم  من  الذين لا يعرفون معدنه قالوا  لي  إن هذا الرجل  ضيع نفسه  بنفسه  ولو  كان اختار ذلك الطريق، لكان احد اكبر مقاولي  وادمدني  ولكنه (صعب) جدا، و(ناشف) جدا لا يقبل الكسر أو التليين، فالنشاف الذي يقصده هؤلاء  هو لماذا لم  يقبل الراحل الرشوة  حتي يبني  له  قصرا ؟  والليونة  هي لماذا لا يتقاضي عن عيوب  في بناية  يمكن إن تنهد  علي رؤوس  ساكينها  كما حدث  ذلك  في عز النهار  وكوفئ المسئول عنها   درجة  عالية عن جريمة  تركت  بدون عقاب.

في ليالي الحزن الممض ومن سرادق عزائه تدفق المئات من المعزيين أصدقاء وزملاء دراسة، وسياسيين، ورجال إعمال، وعمال, يبكونه ساهمون في لجج الحيرة ولواعج الفراق، وانهمرت علينا هواتف من كل إنحاء المعمورة من أميركا وكندا، واستراليا واستراليا، واليونان، وبلجيكا، والخليج، كانوا جميعا يسألون الله العلي القدير إن ينزله منزلة صدق، وان يجزيه أحسن الجزاء وأجزله لما قدمه لوطنه السودان من تضحيات وإيثار للنفس، ونكران للذات وتضحيات يبلغ شأوها السحاب. إلا رحم الله عابدين رحمة واسعة شوا لهمنا وإياكم الصبر والسلوان.

موقع سودانايل



Source: www.tahalof.info


رأي ـ تعليق  



هل قرأت المقال اعلاه؟   
اكتب    
 
 
 
 
 
  
site created & hosted by