# # # #
   
 
 
[ 18.02.2009 ]
كلمات الاستاذ كمال الجزولي المحامي عن الفقيد عابدين محيسي




الاثنين

لو أن عرَّافة غجريَّة شديدة لضيدة كانت قرأت فنجال صديقي الراحل المهندس عابدين محيسي، على أيام شبابه الغضِّ في أواخر الستينات التي شهدت بواكير تعارفنا بين الخرطوم ومدني وكييف، فتنبَّأت له بأنه سوف يأتي عليه حين من الدهر يصبح فيه (مهندساً مقاتلاً) في سبيل قضيَّة، أيَّة قضيَّة، وأنه سيصطفُّ، لأجلها، في طوابير اللواء أبي خالد، يحمل السلاح ويرفع (التمام)، لكان استقبل نبوءتها تلك بواحدة من ابتساماته كثيرة العذوبة، على ما فيها من سخرية غامضة تلوح، في المحيا الدقيق الرقيق، ولا تكاد تستبين! 

كان ذلك سيكون كذلك، لا لوداعة شخصيَّة عابدين ونفورها من العنف فحسب، بل لأن غالب أبناء جيلنا، وعابدين فيهم، تنشَّأوا، أصلاً، على ميل لمصفوفة الحياة (الملكيَّة) لم يثنهم عنها كون مصطلح (ملكي)، في ما حدَّثني الحبيب الراحل الآخر خالد الكد، كان، ولعله ما يزال، أقذع ذمٍّ يمكن أن يوجهه (تعلمجي) لطالب (مستجد) بالكليَّة الحربيَّة! كانت تستهويهم، حالَ يقظتهم وحالَ منامهم، مخايل (القدلة)، بعد نيل الشهادة الجامعيَّة، في أبهاء الخدمة المدنيَّة وأروقتها، و(التدِرْدِق) في سلالم (الإسكيلات) ذوات الشَّنَّة والرَّنَّة من (كيو) إلى (دي إس)، وإنْ كانت الدرجات العُلى لمَّا تزل، بعد، محض طيوف نائية! وفي الليالي الزرق، أيام كانت للأفنديَّة ليالٍ زرق، والطبقة الوسطى هي الطبقة الوسطى، كانت (القعدات) تنعقد على أحلام البعثات الخارجيَّة، الواعدة بـ (القروبس)، حتى إذا عاد المُنْعَمُ عليهم بتلك الحظوة، انفتحت أمامهم، على مصاريعها، بوَّابات المناصب القياديَّة بمكاتبها الوثيرة وسجَّادها الفاخر، ودنياوات المنازل الحكوميَّة بحدائقها الغناء وقرميدها البرتقالي، وعوالم السيارات (الميري) بموائها الذي لا يدانيه سوى مواء الهرر المدللة، تقلُّ الزوجات المنعَّمات والأطفال المحظوظين بين الأسواق والمدارس وبيوت الأقارب والأصدقاء!

كثيرون انتموا إلى الأحزاب، يساراً أو يميناً، استجابة لما وجدوا في أنفسهم من قناعات سياسيَّة. لكنَّ كثيرين من هؤلاء الكثيرين فعلوا ذلك بأجندات خفيَّة .. إمَّا طمعاً في ذهب المعز، أو استكمالاً لوجاهة مجتمعيَّة، أو سعياً، فحسب، وراء التقية! عابدين لم ينتم لهؤلاء ولا لأولئك، بل جعل مبلغ همِّه أن يجوِّد علمه بـ (العمارة) يجسِّده أشكالاً بديعة، وكفاه بذلك خدمة لبلده! لكنَّ أرض السودان ما لبثت أن زلزلت، ذات صباح أغبر، زلزالها، وأخرجت، من مخابئ الغفلة، أثقالها، فدفعت بعابدين دفعاً، لا للانخراط في العمل السياسي (الملكي) فحسب، بل و(المسلح) أيضاً؛ فتأمَّل بعض المآلات الدراماتيكيَّة التي يمكن أن يفضي إليها الشعور بـ (القمع) حين يبلغ أقصى احتمالاته وحشيَّة، ولا يعود ثمَّة مناص من مجابهته!

بُعيد إبرام اتفاقيَّة السلام الشامل، وإصدار الدستور الانتقالي لسنة 2005م، انتقلت حركة أبي خالد إلى النشاط (الملكي)، أملاً في تحوُّل ديموقراطي منشود. فأصبح عابدين عضواً في قيادة (التحالف السوداني)، وممثلاً له في هيئة الأحزاب. وظلَّ، "برَغم الدَّاءِ والأعداءِ"، يعمل كالمروحة "مِنْ دَغَش الصُّبْح إلى انحِباس الضوءِ في المَساء"، لا يرتاح قط، حتى لفظ آخر أنفاسه واقفاً على قدميه، ليل السبت 24/1/2009م، ولم تكن قد انقضت غير سويعات مذ ودَّعناه بقاعة الصداقة بالخرطوم، وما درينا أنه الوداع الأخير، عقب مشاركته، ممثلاً لحزبه، في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الخامس للحزب الشيوعي. 

رحم الله أخانا الحبيب عابدين، وجزاه عن الاحسان إحساناً، وعن الإساءة عفواً وغفراناً، وأدخله في زمرة الشهداء والصديقين وحسن أولئك رفيقا، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

* نقلا عن رزنامة الاستاذ كمال الجزولي بعنوان (دَائِرَةُ الطَّبَاشِيْرِ القُوْقَازِيَّةْ! .... ) التي نشرها بصحيفة (أجراس الحرية) في عددها الصادرة يوم الاثنين 16 فبراير 2009م.
 


 



Source: www.tahalof.info


رأي ـ تعليق  



هل قرأت المقال اعلاه؟   
اكتب    
 
 
 
 
 
  
site created & hosted by