# # # #
   
 
 
[ 19.09.2008 ]
ملف السدود - محمد جلال هاشم


المحاضرة التى قدمها السيد محمد جلال هاشم فى الندوة التى اقامها النادى النوبى ولجنة مناهضة السدود بهولندا بتاريخ 13 سبتمبر 2008



اللجنة الدولية لإنقاذ النّوبة ومناهضة سدّي كجبار ودال

المملكة المتحدة ـ لندن 30 أغسطس 2008م

قاعة دار الرّابطة النّوبيّة ـ 383 لادبروك قروف. كنال سايِد

النّادي النّوبي بهولندا ـ مدينة لاهاي

13 سبتمبر 2008م

محاضرة السّيّد/ محمّد جلال هاشم

تحت عنوان: مشاريع السّدود بشمال السّودان، هل هي سيناريو لدارفور جديدة تحت التّنفيذ؟

ملخّص المحاضرة

ترحيب
يسعدني أن أكون بينكم هنا في دار الرّابطة النّوبيّة بلندن ودار النّادي النّوبي بمدينة لاهاي بهولندا؛ كما يشرّفني أن أتحدّث لهذا الجمهور الكريم والذي توافد لهذه المحاضرة من مختلف بقاع بريطانيا وهولندا.

كيف ومتى نبني سدّاً
جاء في الأنباء أنّ نظام الخرطوم قد انتهى من تخطيط، ومن ثمّ شرع في بناء، ما عددُه 23 سدّاً في مختلف بقاع السّودان. حسناً! فهل من جدوى حقيقيّة لما قامت به؟ دعونا نرى يا سادة!
***
دعونا أوّلاً نقدّم رؤيتَنا في محاولة مبسّطة للرّدّ على السّؤال التّالي: كيف ولماذا نشرع في بناء السّدّ، أيّ سدّ. سأبدأ بقصّة واقعيّة يعرفها كلّ سوداني تخطّى المرحلة الوسطى، أو المتوسّطة، ألا وهي طريقة وأسباب بناء خزّان سنّار عام 1925م.
***
نشير بدءاً إلى أنّ السّدود إمّا أن تكون إنتاجيّة (لإنتاج الطّاقة، أو لإنتاج الزّراعة، أو للإثنين معاً)، أو احترازيّة (لدرء الفيضان، أو تخزين المياه تحسّباً للجفاف، أو الإثنين معاً)، أو لجميعها. أدناه سوف نتناول تجربة بناء خزّان سنّار، وذلك بوصفه خزّاناً إنتاجيّاً بحتاً. وسنلاحظ أنّ الذين بنوا ذلك الخزّان فكّروا أوّلاً في المشروع التّنموي قبل أن يفكّروا في بناء الخزّان. تعالوا لنرى!
***
اشتُهر شمال بريطانيا طيلة القرنين التّاسع عشر والعشرين إلى نصفه بصناعة النّسيج الذي تمركز في مقاطعتي لانكشاير ويوركشاير. وقد كانت بريطانيا تستورد القطن طويل التّيلة من العديد من أمريكا، وبتكلفة عالية. مع بداية القرن العشرين واستعمار بريطانيا ومصر للسّودان، فكّرت بريطانيا في إمكانيّة زراعة القطن في سهول الجزيرة ذات التّربة الطّينيّة السّوداء. فقاموا بتقدير الكمّيّة التي يمكن أن تنتجها لهم تلك المساحات الشّاسعة، فوجدوها بدرجة من الضّخامة أسعدتهم وفرحوا بها أيّما فرح. على هذا قامت بريطانيا بالتّجارب على تلك التّربة، فجاءت النّتائج إيجابيّة.
***
قام بفحص التّربة فريق مكوّن من شخصين (فقط!) حيث خلصا إلى تصنيف تربة ما بين النّيلين على النّحو التّالي: تليها A، Bثمّ C؛ ثمّ أخيراً D. وقد استبعد ذلك الفريق التّربة D، وذلك بحجّة عدم صلاحيّتها للزّراعة، وذلك كونها عطرونيّة، جيريّة، مع لذوجة صمغيّة، تحول دون تخلخل الماء لجوف التّربة، وهي ما يسمّيه أهلنا ما بين الكلاكلات وجبل أوليا بالتّربة "الرّقيطة". ولكم أن تعلموا أنّ المنطقة التي صُنّفت تربتُها على أنّها D، هي ما يُعرف الآن بمشروع سندس الزّراعي!
***
بعد ذلك ثمّ قامت الإدارة البريطانيّة بالتّفكير في القوّة العاملة، فنظرت في شتيت قبائل كنانة، ودغيم، ورفاعة، والكواهلة والعقليّين ... إلخ، من أقوام عربيّة تسكن المنطقة، وتعيش حياة رعي مصحوبة بزراعة مطريّة. جاءت المسوحات الاجتماعيّة التي قامت بها الإدارة البريطانيّة بنتائج إيجابيّة ومشجّعة، مؤدّاها استعداد هذه القبائل على تغيير نمط حياتها والاعتماد على حياة الاستقرار والزّراعة المرويّة. ثمّ نظرت تلك الإدارة في قدرة تلك القوّة البشريّة في إنفاذ ذلك المشروع وفق حجم الإنتاج المرتجى، فوجدوا عجزاً كبيراً فيها، فكان أن قاموا بتشجيع نزوح المواطنين من شمال السّودان إلى الجزيرة. ولهذا نكاد نجد جميع قبائل شمال السّودان ضمن التّركيبة القبليّة لسكّان مشروع الجزيرة. ثمّ أعادوا الكرّة، مقارنين ما استجلبوه من أقوام مع ما يرتجونه من إنتاج، فوجدوا فجوة العمالة لا تزال خاصّةً فيما يتعلّق بالعمّال الموسميّين للقيط القطن، فكان أن استقدموا مجموعات إثنيّة بأكملها من دول غرب أفريقيا، وهي التي تعيش الآن فيما يعرف باسم "الكنابي" في فقرٍ مُدقع، وظلمٍ مشين.
***
على هذا قامت الإدارة البريطانيّة بتأسيس إدارة مشروع الجزيرة، التي قامت بإرساء اتّفاق الشّراكة مع المزارعين. كما قامت بتأهيل عدد كبير من الشّباب السّوداني تحت إشراف متخصّصين من بريطانيا، وذلك لتدريب الأهلين على أنماط وطرق الزّراعة من دورة رباعيّة إلى خماسيّة، إلى كيفيّة زراعة شجيرة القطن، وبالتّالي الاعتناء باللوزة، وحمايتها، انتهاءً بلقيط القطن. ثمّ قامت تلك الإدارة بإجراء زراعات تجريبيّة، لا يزال يتذكّرها كبار السّنّ ممّن عاشوا تلك الفترة. ثمّ قامت إدارة المشروع بتقسيم الأرض، فنال كلّ واحد منهم حوّاشته؛ وثمّ قامت بتخطيط الأرض بالجير الأبيض تحضيراً لحفر القنوات والتّرع، مع تدريب المزارعين على كيفيّة إدارة وصيانة تلك القنوات.
***
ثمّ فكّرت إدارة المشروع في أن تقوم بإجراء معالجة أوّليّة للقطن، وذلك بحلجه قبل إرساله لبريطانيا. فقدّرت عدد المحالج التي ستحتاج إليها وفق تقديرات الكمّيّة المتحصّل عليها من القطن. وبما أنّ بذرة زهرة القطن ستكون من المخلّفات، رأوا كيفيّة الاستفادة منها في صناعة الزّيوت؛ وبما أنّ صناعة الزّيوت متلازمة مع صناعة الصّابون، فقد نظروا أيضاً في جدوى التّصديق بتراخيص صناعة الصّابون. ثمّ نظروا في جدوى إدخال صناعة الغزل والنّسيج الأوّليّة، من حيث صناعة الخيوط وبعض المنسوجات البسيطة.
***
على هذا قاموا بالتّصديق لجميع هذه الصّناعات، والتي بالفعل شرعت شركاتُها في استقطاب الأيدي العاملة. وقد سيطر حينها على مجالس الشّباب وأحاديثهم، أيّ الشّركات قد التحق به هذا أو ذاك، النّسيج، أم الحلج، أم الصّابون، أم الزّيوت؟ أم أنّهم اكتفوا بالزّراعة، أم تُراهم قد جمعوا بين هذا وذاك؟ وهل هذا قانوني أم غير قانوني ... إلخ.
***
هنا ـ وهنا فقط ـ فكّرت الإدارة الاستعماريّة (لاحظوا معي: الاستعماريّة!) ببناء الخزّان. لماذا؟ ردّاً على الأسئلة التالية: من أين لنا الماء لريّ هذا المشروع؟ ثمّ من أين لنا الطّاقة لتشغيل هذه المصانع؟ هل يمكن أن نروي زراعاتِنا بالطلمبات أو بالآبار؟ هل يمكن أن نقوم بتشغيل هذه المصانع بالمولّدات الكهربائيّة الضّخمة؟
***
وعلى هذا، وبعد دراسة جميع الخيارات وقع اختيارهم على بناء خزّان سنّار!
***
ويعكس لنا هذا أمراً جدَّ خطير؛ أوّلُه أن الخزّانات والسّدود ليست تنمية في حدّ ذاتِها، بل هي في الواقع تأتي بمثابة إجابة لسؤال تنموي قائم يتعلّق إمّا بالرّيّ أو بالطّاقة. فماذا يعني هذا؟ إنّه يعني أنّ من يفكّرُ في بناء خزّان أو سدّ، عليه أن يقوم الخطوات التّالية:
أولاً؛ عليه تحديد وظيفة الخزّان أو السّدّ، هل هو إنتاجي (كهربائي أم زراعي؟ أم لكليهما)؛ أم هو احترازي (درءاً لجفافٍ أم درءاً لفيضانٍ؟ أم لكليهما)؛ أم تُراه لها جميعاً؟
ثانياً؛ إذا كانت الوظيفة إنتاجيّة، عليه تحديد ما إذا كانت لإنتاج الكهرباء أم لإنتاج الزّراعة، أم لكليهما؟
ثالثاً؛ إذا قال لإنتاج الكهرباء، عندها ينبغي عليه أن يكون قادراً، ليس فقط على تسمية المشاريع التّنمويّة الصّناعيّة، بل قادراً على الإشارة إلى مشاريع ماثلة للعيان، من حيث نوع منتجاتها، وتصاديقها، ومن حيث الشّروع في استقطاب العمالة، ثمّ في التّسويق، محلّيّاً كان أم عالميّاً بالتّصدير؛
رابعاً؛ إذا قال بأنّ وظيفتها زراعيّة، عندها ينبغي عليه أن يكون قادراً، ليس فقط في تسمية المنطقة التي سوف تّزرع، وحجم مساحتها، بل قادراً على الإشارة إلى نوع المحصول المستهدف بالزّراعة، ومن هم الذين سيقومون بالزّراعة؟ وما هي الجهة المالكة للمشروع، الدّولة أم شراكة بينها وبين المزارعين، أم هي قطاع خاص، أم هي شركة استثمار أجنبيّة؟ وهل من سيقومون بالعمل في الزّراعة مزارعون (يملكون الأرض)، أم فلاّحون (أُجَراء على الأرض)؟ ثمّ ما هي جدوى المشروع ككلّ للاقتصادة الوطني، وما هي سبل تسويقه محلّيّاً أو عالميّاً؟ ... إلخ ... إلخ.
***
والسّؤال هو: هل هذا ما عليه أمر السّدود التي تشرع الدّولة في بنائها، وبقروض سيظلّ الشّعب السّوداني يدفعُها إلى ما شاء الله؟ إذ لا نزالُ ندفع القروض وفوائد القروض التي استلمها نظام مايو.
***
إذا لم يكن قادراً على تقديم الإجابات الميدانيّة الماثلة للعيان لمثل هذه الأسئلة، عندها يحقّ للنّاس أن يشكّوا إمّا في فهمه لما يريد القيام به، أو في أهدافه من القيام بمثل هذا المشروع، وبالتّالي التّكشيك في جدوى هذه السّدود.
***
إذن تعالوا معي لنرى هل تملك دولتُنا السّنيّة هذه الإجابات أم لا.

تعالوا لنرى أمر هذه السّدود: مِرْوي، كجبار، ودال
دعونا الآن نأخذ مشاريع بعينها من جملة ما أعلنت الحكومة أنّه سوف تبنيها. وسنأخذ هنا سدّ مِرْوِي (وليس مَرَوِي)، سدّ كجبار؛ ثمّ سدّ دال.
***
دعونا نرى أوّلاً هل هذه السّدود إنتاجيّة أم احترازيّة، أم كليهما؟ وفي حال كونها إنتاجيّة، دعونا نرى هل هي كهربائيّة أم زراعيّة؟ وفي حال كونها احترازيّة، هل هي لدرء الجفاف أم لدرء الفيضان؟
***
في الحقيقة فقد كيف شرعت الدّولة في عهد الإنقاذ في بناء السّدود، الواحد تلو الآخر دون أن يكون في مقدورها تسمية مشروع تنموي واحد. فهل تمكّن أيٌّ من المسئولين الكبار أن يسمّي لنا مشروعاً تنمويّاً واحداً من أجله شرعت الدّولة في بناء هذا الكمّ الهائل من السّدود؟
***
ولكن، مع كلّ هذا، هناك زعم حكومي بأنّ هذه السّدود سوف تنتج لنا زراعة. وبما أنّ هذه الدّعاوي (التي لا تسندها تصريحات رسميّة) أكثر من أن تُحصى، فدعونا نستشهد بآخرها، وهو ما قال به السّيّد الفريق عبد الرّحيم محمّد حسين في يوم الخميس الموافق 13 مارس 2008م وذلك وذلك بدار السّفارة السّودانيّة بالرّياض عاصمة المملكة العربيّة السّعوديّة ضمن فعاليّات ندوة تنويريّة أُقيمت عن سدّي كجبار ودال بغرض استقطاب الدّعم الشّعبي للمشروع.
***
فقد نسبت إليه في هذا الخصوص جريدة السّوداني، الأحد 16/3/2008، العدد 842 قوله: "... الهدف منها إعادة النّوبة لأرض النّوبة لا للتّهجير، إعادة المهاجرين من الهجرة الأولى من توتي وحلّة خوجلي، طول النّيل من السّبلوقة إلى حلفا تساوي مرّة ونصف طوله من حلفا للمصبّ .. الأراضي الصّالحة في الشّماليّة (14) مليون فدّان من السّبلوقة إلى حلفا و(6) ملايين فدّان من حلفا إلى المصبّ .. (6) ملايين بها (65) مليون نسمة والـ(14) مليوناً بها مليون ونصف المليون. قلّة كثافة السّكّان خطر مهدّد للأمن الوطني لذلك فواحد من أهداف السّدود خلق الكثافة السّكّانيّة المطلوبة لمنطقة النّوبة لإحياء التّراث النّوبي، ...".
***
كما نسبت إليه في نفس الخصوص جريدة جريدة أخبار اليوم، الأحد 23/3/2008، العدد 4830 قوله: "... السّدّ لإعدة التّوطين وإعادة الكثافة السّكّانيّة لأرض النّوبة ولنراجع معاً أيّها الإخوة الكثافة السّكّانيّة الموجودة الآن على النّيل من الشّلاّل إلى حلفا ولكم أن تعلموا أنّ الأراضي الزّراعيّة الصّالحة للزّراعة (6) مليون فدّان فيما تبلغ المساحة الصّالحة للزّراعة بالولاية الشّماليّة حسب الدّراسات (14) مليون فدّان والمساحة من خزّان السّبلوقة ـ حلفا 1.2 مليون فدّان .. وفي مصر عدد السّكّان (65) مليون يعيشون على الـ (6) مليون فدّان الصّالحة للزّراعة .. أمّا نحن وبالرّغم من الـ 14 مليون فدّان الصّالحة للزّراعة وبعد كلّ المجهودات التي بذلها الوالي استطاع أن يزرع 500 ألف فدّان فقط ...".
***
إذن فهذه السّدود ليس فقط لإنتاج الزّراعة، بل لإعادة الكثافة السّكّانيّة لشمال السّودان بإعادة من هاجروا من الإقليم، حتّى بما في ذلك المهاجرون من لدن أهالي توتي والعيلفون وهلمّ جرّا! حسناً!
***
المشكلة يا سادتي تكمن في أنّ مياه النّيل، وعلى غير ما نعرف عن المياه، غير سائبة. فهي حسبما درسنا في المرحلة الثّانويّة، محسوبة قطرة، قطرة. فهناك ما مقدارُه 45 مليار متر مكعّب تذهب لمصر (نصيب الأسد)؛ ثمّ هناك 18 مليار متر مكعّب هي نصيب السّودان، حيث لا يستفيد إلاّ من 14 مليار متر مكعّب، وبالتّالي تذهب البقيّة إلى مصر.
***
ولكن قيام السّدود يحتاج إلى كمّيّات منها تلك المياه هي تلك التي ستظلّ باستمرار في داخل البحيرة النّاجمة عنه (التّخزين الميّت)؛ وقد حُلّت هذه المعضلة باستغلال المياه التي كات تروي الجروف قبل السّدّ. بعد ذلك تبقى مسألة توفير المياه التي سوف تتبخّر، وهو ما ستغطّيه كمّيّة المياه الفائضة عن حاجّة السّودان والبالغ حجمها 4 مليار متر مكعّب سنويّاً، وهي التي ظلّت مصر تستفيد منها حتّى اعتبرتها حقّاً مكتسباً. إذن الإنتاج الزّراعي بالمنطق ينبغي أن يكون خصماً على فائض المياه التي ظلّت تستفيد منها مصر لعقود وعقود؟
***
في هذا الصّدد يقول لنا مسئولو وزارة الرّيّ وخبراؤها (أنظر: سيف الدّين حمد عبدالله، 2007، "القدرة التّخزينيّة للسّدود على النّيل وروافده داخل السّودان" ورقة قُدّمت في ورشة العمل المعنونة: نحن إستراتيجيّة وطنيّة للمياه في السّودان، مركز دراسات الشّرق الأوسط وأفريقيا، قاعة الشّهيد الزّبير محمّد صالح، الأحد 2/9/2007م، الخرطوم) أنّ سدّ مروي يبلغ التّبخّر فيه ما مقداره 1.5 مليار متر مكعّب سنويّاً؛ في كجبار 1.7 مليار متر مكعّب سنويّاً؛ في دال 800 مليون متر مكعّب سنويّاً، وصلنا إلى نتيجة جدّ خطيرة، ألا وهي أنّ هذه السّدود الثّلاثة فقط سوف تبتلع فائض المياه وزيادة. هذا طبعاً دون أن نذكر شيئاً عن السّدود الأخرى، فتصوّر!
***
إذن يا سادتي، لا توجد هناك أيّ مياه فائضة من حصّة السّودان للزّراعة!
***
ولكن ماذا عن عدد الـ30.000 فدّان التي تُزرع من قبل المتأثّرين بسدّ مروي؟ وماذا عن عدد الـ 36.000 فدّان التي وعد بها وزير الدّفاع مواطني الشّماليّة؟ هذه (ولنفترض أنّها في مجملها تبلغ نصف مليون فدّان) ليست مشاريع تنمويّة، وذلك كونها مشاريع إعاشة (نكرّر: إعاشة!) لتعويض المتضرّرين. فالتّنمية الحقّة ليس فيها متضرّرون، كما ليس فيها تعويض؛ إذ كيف يمكن تعويض المستفيد؟ فمن منّا ممّن أكمل المرحلة الثّانويّة دون أن يكون قد درس مشاريع الإعاشة بالنّيل الأبيض، التي اقتضى قيامَها بناءُ خزّان جبل أوليا تعويضاً لمن فقد أراضيه؟
***
ولكن ماذا بخصوص سهل كُكّا؟
***
عن سهل كُكّا فانقلوا عنّي شخصيّاً، فقد قمتُ في الأعوام 1999م-2003م بمسح تلك المنطقة ضمن فريق مشروع المحس التّابع لشعبة الآثار جامعة الخرطوم، وأعرفها شبراً شبراً. تلك الأرض عطرونيّة، أو سبخة، ولا تصلح للزّراعة، ومن ميزات الأرض العطرونيّة أن تحتفظ بالجثث منذ آلاف السّنين كما لو كانت محنّطة، وما هي بمحنّطة. وقد حاول بعض أهل كُكّا زراعة تلك الأرض، ففشلت جميع محاولاتهم، ولم يحصدوا قيراطاً واحداً، إذ لم تُنبت لهم تلك الأرض نباتاً لأعلى من 15 سم، مع ما بذلوا فيها من جهد ومن أسمدة ووفرة سقاية وريّ إلخ.
***
إذن، إذا فعلاً كانت هذه السّدود الثّلاثة (مِرْوي، كجبار، ودال) إنتاجيّة فما نوع الإنتاج الذي من شأنها أن تفي بها حتّى تستحقّ كلّ هذا العناء والمال المقروض (قرضاً)؟ وصدّقوني، أنّنا وجدنا الإجابة على هذا السّؤال في تلافيف الصّحف المصريّة دون السّودانيّة!
***
كتب متولى سالم (جريدة المصري اليوم، بتاريخ 22/3/2008م العدد 1378): "أكد كمال علي وزير الموارد المائية السوداني ... أن إقامة هذه السدود لأغراض توليد الكهرباء فقط". فالماء يا سادتي ليس سائباً كما تراه العين المجرّدة، فكلّ قطرة فيه محسوبة بدقّة. وهنا ينهض السّؤال التّالي: لماذا نبدّد مياهنا أدراج الرّياح في زمن يصفه الخبراء بأنّه سيكون عصر حرب المياه؟ فقد جاء في الأنباء مؤخّراً أنّ العديد من مدننا غير المتشاطئة مع الأنهار تعاني من العطش ما لم تُسقَ بأنابيب من النّيل أشبه ما تكون بأنابيب البترول. وصدّقوني يا سادتي لو أنّنا بعنا نصيبنا من فائض المياه (مياه شرب صحيّة مثل "صافية" و"سوبا") في الأسواق العالميّة، لربحنا منها ما يكفي لتوليد الكهرباء بما يفي احتياجاتنا.
***
وكيفما كان شكل التّفريط في فائض مياهنا، نخلص إلى أنّ وظيفة هذه السّدود، حسبما يُصرّح المسئولون، إنتاجيّة! حسناً! ولكنّها ليست إنتاجيّة زراعيّة، عليه لا بدّ وأن تكون إنتاجيّة كهربائيّة. ولو! برضو، حسناً! إذن تعالوا معي لنرى هل هي فعلاً ذات جدوى من حيث هي إنتاجيّة كهربائيّة؟ تعالوا لنرى!

هل هناك جدوى من إقامة السّدود على الأنهار الإطمائيّة وفي المناطق شديدة التّبخّر؟
السّدود عموماً لا يُؤتمن عليها في مدّ الصّناعة والخدمات بالكهرباء أو الماء بطريقة مستمرّة ومنتظمة لفترات إستراتيجيّة. وأسوأ السّدود من حيث الإنتاج الزّراعي والكهربائي تلك التي تُقام على الأنهار الإطمائيّة، مثل نهر النّيل؛ ثمّ يزداد السّوء لدرجة غير مقبولة عندما تُقام هذه السّدود في مناطق شديدة الحرارة (بالضّبط مثل شمال السّودان)، حيث تزيد درجة تبخّر الماء بما يقلّل من جدوى السّدّ، وذلك حسبما أوضحنا أعلاه.
***
كلّ هذا يقودنا إلى السّؤال التّالي: إلى متى يمكن أن يستمرّ عمر هذه السّدود؟
***
كلّ هذا كلام لم نقلْه، بل قال به الخبراء. دعونا نرى موقف واحد من أكبر السّدود المنتجة للكهرباء في العالم، ألا وهو السّد العالي بمصر، حيث كانت إنتاجيّتُه في عام 1966م تغطّي ما نسبته 55% من احتياج مصر للكهرباء، ثمّ انخفضت هذه النّسبة إلى 15% بعام 1998م (http://en.wikipedia.org/wiki/Aswan_Dam)، والآن لا تغطّي إنتاجيّة السّدّ العالي غير 9% فقط.
***
وما هذا إلاّ لأنّ الطّاقة التّخزينيّة للسّدود تتأثّر بالإطماء، وحتّى لا يغالطنا في ذلك أحد، فلنقرأ من موقع برنامج الأمم المتّحدة البيئي بخصوص سدّ مروي: http://postconflict.unep.ch/publications/UNEP_Sudan_synthesis_A.pdf
"وتشمل المشكلات الرّئيسيّة المرتبطة بسدّ مروي ترسّب الطّمي في بحيرة الخزّان وتآكل الشّواطئ بسبب التّدفّق المكثّف للمياه خلال فترات زمنيّة وجيزة. وفضلاً عن ذلك، فإنّ طاقة التّخزين الفعّال لكلّ مستودعات السّدود بالسّودان تتأثّر بدرجة خطيرة (باستثناء سدّ جبل أوليا) بترسيب الطّمي. وسبّبت السّدود تدهوراً كبيراً في نظم الأراضي الرّطبة وخاصّةً لميعات السّنط على النّيل الأزرق وغابات الدّوم على ضفاف نهر عطبرة السّفلي".
***
وهذا هو نفس الموقع الذي قال عن الآثار البيئيّة السّالبة لسدّ مروي ما يلي: "وبرغم أنّه أوّل مشروع سدّ في السّودان تضمّن تقييماً للتّأثير البيئي، فإنّ العمليّة لا تستوفي المعايير الدّوليّة وكان يمكنها أن تكون أفضل لو اتّسمت بمزيد من الشّفافيّة والتّشاور العام".
***
تعالوا نتناول مسألة الإطماء والرّسوبيّات السّنويّة وما يترتّب عنها. وسيكون مصدرُنا الأساسي فيها الدّكتور/ بروفيسور سيف الدّين حمد عبد الله، في مبحثه الوضيء الذي استشهدنا به أعلاه. وتأتي أهمّية كاتب البحث في أنّه أحد الخبراء الذي يعملون في وزارة الرّي والموارد المائيّة. المسألة ببساطة أنّه في نهر تبلغ كمّيّة الإطماء والرّسوبيّات السّنويّة فيه ما مقداره 181 مليون طن [حسب الدّراسة التي قامت بها الشّركة الكنديّة المكلّفة من قبل إدارة السّدّود (راجع التّحقيق الوارد في جريدة آخر لحظة، عدد 274، الثّلاثاء 1/5/2007م الموافق 13 ربيع الثّاني 1428هـ، الصّفحة 8]، تصبح مراجعة جدوى إقامة الخزّانات والسّدود أمراً أكثر منطقيّةً. وفي الحقيقة ما اعتمدته إدارة السّدود من أرقام بهذا الشّأن لا يخلو من أخطاء لا تجوز. فنسبة الإطماء في نهر النّيل قبل التقائه بالعطبراوي تبلغ 170 مليون طنّ سنويّاً؛ وتبلغ نسبة الإطماء في نهر عطبرة فقط 84 مليون طنّ سنويّاً. عليه، نسبة الإطماء فيما بعد التقاء النّيل بنهر عطبرة تبلغ 250 مليون طنّ سنويّاً على أقلّ تقدير [سيف الدّين حمد عبدالله، 2007].
***
وربّما لا يعلم القارئ الكريم أنّ البحيرات النّاجمة عن السّدود في النّيل الأزرق قد فقدت أكثر من 50% من سعتها التّخزينيّة جرّاء كمّيّة الإطماء القاعي [راجع في ذلك: سيف الدّين حمد عبدالله، 2007]. ليس هذا فحسب، بل نجد، مثلاً، في حالة خزّان الرّوصيرص، وفي سنواته الأوّلى، أنّ "... الطّمي الزّاحف (Bed Load) قد أثّر سلباً على أرضيّة البوّابات التّحتيّة للسّدّ ممّا يستوجب صيانتها بصفة دائمة وتغييرها لتواكب التّعلية المرتقبة. أيضاً أثّر هذا الإطماء بصورة كبيرة على التّوليد الكهرومائي" [المصدر السّابق].
***
لكن يا سادتي ماذا تعني هذه الأرقام المليونيّة؟ إنّها تعني أنّ إقامة أيّ خزّان أو سدّ على نهر النّيل الأزرق، ثمّ بعد التقاء الأبيض، قد تكون غير مجدية تنمويّاً، خاصّةً بعد التقاء النّيل بنهر عطبرة، وذلك نسبةً لمشكلة الإطماء. فحسبما يقول به خبراء مياه النّيل والرّي، تفقد هذه السّدود والخزّانات ما نسبته 30% من حجم المستودع المائي كلّ 20 عاماً. إذن في الأربعين عاماً التي هي عمر السّدّ العالي، يمكن أن يكون فقد ما مقدره 50% من سعته الاستيعابيّة على أقلّ تقدير، وهي نسبة ضخمة بكلّ المقاييس. وكي نتصوّر المشكلة بصورة أفضل، علينا تذكير القرّاء أنّ الأربعين عاماً الأخيرة هذه كانت كافية لتحويل خزّان خشم القربة إلى دلتا رسوبيّة ضخمة لدرجة أنّ الخزّان ربّما فقد ما يربو على 80% من سعته الاستيعابيّة.
***
فخزّان خشم القربة الذي افتُتح عام 1964م كانت سعته الابتدائيّة حوالي "... 1300 مليون متر مكعّب ولكن نسبة الإطماء العالية التي يحملها نهر عطبرة بفرعيه سيتيت وأعالي عطبرة أدّت لنقصان حجم كفاءة البحيرة إلى 840 مليون متر مكعّب في عام 1972م" [سيف الدّين حمد عبدالله، 2007]. ويعني هذا أنّ بحيرة الخزّان فقدت ما نسبته 35% من القدرة التّخزينيّة في الثمّاني سنوات الأولى من عمره فقط. تُرى كم تبلغ السّعة التّخزينيّة الآن لهذا الخزّان المسكين، أي بعد أكثر من أربعين عاماً انقضت منذ إنشائه؟ ردّاً على هذا السّؤال يقول البروفيسور/دكتور سيف الدّين حمد عبدالله، وهو الخبير الذي يعمل بوزارة الرّيّ والموارد المائيّة: "تجدر الإشارة بأنّ السّعة الحاليّة لخزّان خشم القربة قد تناقصت بسبب الإطماء إلى 50% من السّعة الابتدائيّة للخزّان حسب المسح الباثيمتري لعام 1992م والآن إلى أقلّ من 50%" [المصدر السّابق]. نعم إلى أقلّ من 50% الآن، لكن إلى كم بالضّبط؟ وكلمة "أقلّ" هذه يمكن أن تحتمل 45%، أو 25%، أو 05% فقطّ. وبالطّبع لا يحتاج القارئ العابر، دع عنك القارئ المتمعّن، إلى عبقريّة كيما يستنبط النّسبة المئويّة البائسة، وذلك بقسمة 43 عاماً على ثمانية أعوام، مع هامش خطأ error كريم يبلغ 27 عاماً تناوم فيها الإطماء دون أن يفعل فعله، لنصل إلى ما نسبته 70% على أقلّ تقدير هو فاقد الّسعة التّخزينيّة لخزّان خشم القربة. أي أن هذا الخزّان لم يعد فقط صالحاً بالمرّة لتخزين الكمّيّة التي من أجلها بُني، بل سيصبح غير قادر لتخزين أيّ مياه بعد حوالي 20 عاماً من الآن.
***
ولنأخذ خزّان سنّار مثلاً، فقد تمّ افتتاحه "... في عام 1925م لريّ مشروع الجزيرة ويبلغ طول البحيرة 60-50 ميلاً بسعة 930 مليون متر مكعّب حتّى منسوب 421.70 متراً تناقصت إلى 430 متر مكعّب تقريباً بسسب الإطماء" [المصدر نفسه]. أيّ أنّ هذا الخزّان أيضاً قد فقد ما نسبته 24% من سعته التّخزينيّة في مدّة زمنيّة لا يُفصح عنها البروفيسور الدّكتور. ولكنّا نزيد من جانبنا فنزعم بأنّ هذا النّقصان قد حدث خلال الخمسة وعشرين عاماً الأولى من عمر الخزّان، فليُفنّد زعمنا من أراد. أمّا إذا صعدنا إلى أعلى قليلاً إلى حيث خزّان الروصيرص، فسنجد [بناءً على المصدر نفسه] أنّه لدى اكتمال آخر مراحله عام 1978م كان يتمتّع بسعة تخزينيّة تبلغ "... 3.4 مليار متر مكعّب منها حوالي 638 مليون [متر مكعّب] تخزيناً ميّتاً". ولكن "نسبة الطّمي العالية المنقولة بواسطة النّهر سنويّاً (100 مليون متر مكعّب) تشكّل خطراً كبيراً على سعة الخزّان [الأمر الذي] أدّى بدوره إلى تناقص سعة الخزّان إلى 1.935 مليار متر مكعّب ... حسب المسح الباثميتري الذي أُجري في عام 2005م ولم يتبقَّ من التّخزين الميّت ... سوى 13.71 مليون متر مكعّب". وهذا يعني أنّ خزّان الرّوصيرص قد فقد ما نسبته 56% من سعته التّخزينيّة خلال السّبعة وعشرين عاماً الأولى منذ انتهاء آخر مراحله عام 1978م.
***
فإذا كان هذا ما حاق بالسّدود التي أقيمت بأعلى النّيل الأزرق، حيث تنخفض درجة الحرارة نسبيّاً عمّا عليه واقع الحال بأقصى شمال السّودان، يحقّ لنا أن نتساءل عمّا يمكن أن يتمخّض عنه الأمر كلّما اتّجهنا شمالاً. في هذا يقول لنا العلماء ما مفاده: "تقلّ أهمّيّة التّخزين كلّما اتّجهنا شمالاً من حيث زيادة كمّيّة التّبخّر وزيادة تكلفة إعداد وتشييد قنوات الرّيّ ووجود الأراضي الصّالحة للزّراعة وزيادة استهلاك مياه الرّيّ للمحصولات الزّراعيّة [الأصحّ هو: استهلاك المحصولات الزّراعيّة لمياه الرّيّ] [المصدر السّابق].
***
هذا ما يقوله أستاذ متخصّص وخبير معتمد لدى وزارة الرّيّ والموارد المائيّة. وهذا بدوره يجعلنا نتساءل في حيرة عن المبرّرات التي جعلت وحدة تشييد السّدود (وللعلم هذه الوحدة، وهي يفترض فيها أن تكون وحدة فنّيّة بحتة، لا تتبع لوزارة الرّي، بل تتبع مباشرةً لرئيس الجمهوريّة) تحمل آليّاتها وتتّجه شمالاً حيث ترتفع درجة الحرارة بصورة تجعل من مسألة التّبخّر عاملاً سلبيّاً يقدح في جدوى إقامة السّدود.

هل لهذه السّدود فعلاً جدوى من حيث إنتاج كهرباء؟
يحتاج السّودان إلى الكهرباء، مثله في ذلك كمثل أيّ دولة على وجه المعمورة. فهل يا تُرى يمكن لسدود إدارة السّدود أن تمدّنا بما نحتاج من كهرباء؟ في هذا الشّأن دعونا نتناول أكبر السّدود التي بالفعل قامت إدارة السّدود (أو كادت) أن تفرغ من بنائه، ألا وهو سدّ مِرْوِي (وليس "مَرَوي)؟ ظلّت إدارة السّدود تُكرّر في كلّ مجلس ومقام أنّ كميّة الكهرباء الموّلدة من سدّ مِرْوِي ستبلغ 1200 ميقاواط، فهل هذا صحيح؟ وهل هذا ممّا يقول به العلم، أم أنّ المسألة لا تعدو كونها كلاماً سياسيّاً للاستهلاك؟
***
في هذا الشّأن سنقوم بالاعتماد على أحد أهمّ المراجع العلميّة التي قام بتأليفها علماء سودانيّون لا زالوا يعيشون بيننا، منهم العالم عبدالله محمّد إبراهيم: Ibrahim, A.M. 1984. The Nile Description, Hydrology, Control and Utilisation.
وقد ورد هذا البحث في المرجع الهام:
Dumont, H.J., el Mogrhraby, A.I. & Desougi, L.A. (ed). 1984. Limnology and Marine Biology in the Sudan. The Hague, Boston, Lancaster: Dr W. Junk Publishers. PP. 1-13.
***
وهؤلاء علماء أجلاّء من لفيف علماء جامعة الخرطوم، ولا يزالون بيننا. إذن من يغالطُنا عليه أن يقوم بالاتّصال بهم. طبعاً استغنت الجامعة عن أغلبهم، إن لم يكن كلّهم، وذلك في هجمتها التّتريّة على العلماء، فأنعم وأكرم، إن كان في هذا إنعام وإكرام.
***
بناءً على ما يقوله عبدالله محمّد إبراهيم [صفحة 11]، لا يمكن أن نحصل على أكثر من الكّميّات التّالية من الكهرباء من كلّ سدٍّ على حدة (بما في ذلك السّدّ العالي وخزّان أسوان):
1. خزّان الرّوصيرص: 250 ميقاواط
2. خزّان سنّار 30 ميقاواط
3. خزّان خشم القربة 13 ميقاواط
4. خزّان جبل أوليا 30 ميقاواط
5. خزّان السّبلوقة (الشّلاّل السّادس ـ مقترح) 120 ميقاواط
6. خزّان الشّريك (الشّلاّل الخامس ـ مقترح) 250 ميقاواط
7. سدّ مِرْوِي (الشّلاّل الرّابع ـ تحت التّشييد) 600 ميقاواط
8. سدّ كجبار (الشّلاّل الثّالث ـ مقترح) 500 ميقاواط
9. السّدّ العالي (الشّلاّل الأوّل) 2100 ميقاواط
10. خزّان أسوان (الشّلاّل الأوّل) 345 ميقاواط
***
في هذا نلاحظ نقاطاً جدّ خطيرة، فكلّ الكهرباء المتحصّل عليها من السّدود المقامة على نهر النّيل الرّئيسي في السّودان لا تزيد عن 1400 ميقاواط بأيّ حال. فإذا أضفنا إلى هذا الكهرباء المتحصّل عليها ممّا يقدّر بحوالي 4 سدود بجنوب السّودان، يمكن أن يرتفع الرّقم إلى 5.000 ميقاواط، وذلك في أحسن الأحوال حسبما تقول بذلك بعض المصادر الحكوميّة التي سوف نتعرّض لها أدناه.
***
لكن أهمّ معلومة يمكن ملاحظتُها في هذا، تلك التي قدّمتها إدارة السّدود بخصوص الكهرباء المتحصّل عليها من سدّ مِرْوِي، إذ تبدو كما لو أنّها لا تسندها الدّراسات العلميّة. فمثلاً مجمل ما يمكن أن نحصل عليه من كهرباء من سدّ مِرْوي لن يتجاوز ما مقداره 600 ميقاواط، أيّ نصف ما تشدّقت به أرقام إدارة السّدود. فقد زعمت إدارة السّدود أنّها سوف تُنتج من سدّ مِرْوي ما مقداره 1250 ميقاواط من الكهرباء. فمن أين يا تُرى تحصّلت إدارة السّدود على هذه الأرقام التي ما أنزل الله بها من سلطان؟ دعونا نرى كيف حدث هذا!
***
يحتوى سدّ مِرْوِي على عدد 10 توربينات بطاقة 125 ميقاواط لكلّ توربين بما يساوي مجموع 1250 ميقاواط. هذه حقيقة، لكنّها لا تعني أنّنا سوف نتحصّل على هذه الكمّيّة من الكهرباء. فما لم تقل به إدارة السّدود، مما يعرفُه لفيف العلماء الأفاضل، أنّ ذلك مجموع الطّاقة المركّبة Power Installed، أي مجمل السّعة التّوليديّة للتّوربينات العشرة، وليس مجمل الكهرباء المركّبة Energy Generated، أي المولّدة والتي سنحصل عليها فعلاً. فالعشرة توربينات لن تعمل جميعها في آنٍ واحد؛ ففي أحسن الفروض ستعمل خمسة توربينات من مجموع العشرة، على أن تكون ثلاثة منها في حالة استعداد، واثنتان منها في الصّيانة.
***
وعليه، مجمل الكهرباء المولّدة ينبغي أن يتمّ حسابها في أفضل الأحوال من الخمسة توربينات العاملة، وليس من مجمل التّوربينات المركّبة. عليه، سنحصل بمضاعفة 125 ميقاواط (السّعة التّوليديّة للتّوربين الواحد) خمس مرّات (عدد التّوربينات العاملة) لنحصل على ما مقداره 625 ميقاواط فقط. وحتّى هذا بحساب أحسن الفروض، أي لو حافظ منسوب المياه على درجته العليا، ثمّ لو عملت التّوربينات على أكمل وجه. ولهذا قدّر العلماء كمّيّة الكهرباء الموّلدة من سدّ مِرْوِي على أنّها 600 ميقاواط لا أكثر.
***
وقد يسأل سائل بريء عن مصدرنا للطّاقة، إذ لا تنمية بلا طاقة! صدّقوني يا سادتي الإجابة على هذا سوف أقوم باستخلاصها من كلام السّيّد الفريق عبد الرّحيم محمّد حسين (وهو للعلم مهندس) وزير الدّفاع، حسبما نسبته إليه صحيفتا السّوداني وأخبار اليوم اللتان وردت إليهما الإشارة أعلاه، ثمّ من البيانات الصّادرة من السّيّد/ مكّاوي العوض، مدير الهيئة القوميّة للكهرباء، فإلى هناك.
***
جاء في تغطية جريدة أخبار اليوم ما يلي منسوباً للسّيّد الفريق عبد الرّحم محمّد حسين: "وحتّى إذا أنشأنا جميع السّدود التي ذكرناها فإنّها ستنتج 8 آلاف ميقاواط، العاصمة السّعوديّة فقط الآن الطّاقة المتوفّرة فيها 8 آلاف ميقاواط ...".
***
وجاء في تغطية جريدة السّوداني ما يلي منسوباً إلى السّيّد الفريق عبد الرّحيم محمّد حسين: "الكهرباء الموجودة في السّودان الآن لا تغطّي حيّاً واحداً في الرّياض ...". ومع كلّ هذا لم يخطر ببال أيٍّ من الصّحفيّين الذين قاموا بتغطية الحدث أن يسأل، أو يقوم بتحليل مثل هذه الإفادة الغريبة، إذ تُثير من الأسئلة أكثر ممّا تُجيب.
***
وأعظم هذه الأسئلة شأناً هو: ماذا سيكون مصيرنا عندما نستنفد بناء جميع السّدود، ثمّ تصبح لدينا عاصمة في حجم الرّياض ـ دع عنك عدّة مدن في حجم الرّياض؟ إلى ماذا نلتفت عندها كيما نقوم بسدّ العجز في الطّاقة في قطاع الخدمات، دع عنك قطاع الصّناعة والتّنمية؟ أولا يؤكّد السّيّد الوزير بحديثه هذا أنّ هذه المشاريع لا تنتج كهرباء تستحقّ كلّ هذا العناء وكلّ هذه التّكاليف وكلّ هذه التّضحيات؟
***
أمّا السّؤال الثّاني، وهو لا يقلّ في عظمة شأنه عن الأوّل، فهو: من أين وكيف تنتج السّعوديّة هذه الكمّيّات المهولة من الكهرباء؟ 8.000 ميقاواط لإنارة مدينة الرّياض وحدها! دع عنك باقيي المملكة!
***
والجواب على هذا السّؤال لا يحتاج إلى عبقريّة، إذ تنتج كلّ هذا بالتّوليد الحراري طبعاً، ذلك كونها دولة بتروليّة. لكن، أوليس نحن أيضاً قد صرنا دولة بتروليّة؟ ولكن الحكاية لم تنته هنا، إذ لا تكتمل إلاّ باستعراض وثيقة الهيئة القوميّة للكهرباء والتي كان السّيّد مكّاوي العوض (المدير العام) قد أقام لها مؤتمراً صحفيّاً بمنبر سونا للأنباء، ذلك قبل أيّام قلائل من سفر السّيّد عبد الرّحيم محمّد حسين للسّعوديّة. تحمل الوثيقة الإشارات الرّسميّة التّالية:
(إشارتُنا: م ع/ لجان/ 790/ إشارتُكم: ......../ التّاريخ: 4-12-2007م). ويعود الحرفان (م ع) إلى مكتب (المدير العام)، أي مكتب السّيّد مدير الهيئة. وتتعلّق الوثيقة بخطّة الهيئة للتّوليد الكهربائي حتّى عام 2030م. أي والله! عام 2030م! وفيها ستكون خدمات الكهرباء قد غطّت سكّان السّودان بنسبة 80%. وقد نُشرت هذه الوثيقة في جريدة السّوداني، عدد السّبت الموافق 16/2/2008م تحت عنوان: المدير العام للهيئة القوميّة للكهرباء لـ (السّوداني): الهيئة تبدأ تنفيذ خطّة قوميّة طويلة المدى لتوفير الكهرياء.
***
إذن ماذا قال السّيّد مكّاوي العوض؟ ببساطة أعطانا الجدول التّالي:
التّوليد الحراري: 18.491 ميقاواط (بنسبة 72%).
التّوليد المائي: 4.587 ميقاواط (بنسبة 28%)
***
من أين كلّ هذا التّوليد الحراري يا سادة؟ لا يتركنا السّيّد مكّاوي العوض نحتار في سبيل إيجاد الإجابة، إذ يعطينا لها بلا مقابل:
• توليد البحر الأحم بالفحم الحجري: 4.136 ميقاواط
• توليد غرب السّودان: 2.177 ميقاواط
• توليد النّيل الأبيض 3.500 ميقاواط
• توليد الخرطوم والجزيرة: 8.512 ميقاواط
• توليد ديزل مناطق متفرّقة: 250 ميقاواط
***
وبهذا يبلغ مجموع الإنتاج الكهربائي الحراري في العام 2030م ما مقدارُه: 23.078 ميقاواط!
***
فهل بعد هذا من يغالط يا سادتي في أنّ السّدود، بالنّظر إلى ما تُلحقُه من دمار بالبيئة وبالكيانات الاجتماعيّة المتأثّرة منها، قطعاً قلية الجدوى، إن لم تكن عديمة الجدوى من أصلها؟ فمن بين 40 حالة سدود في العالم، وبعد دراسات استمرّت لعقود، حسبما سيرد أدناه، لم يجدوا أيّ تحسّن قد طرأ على الأوضاع، بل ساءت أوضاع السّكان إلى ما لا يمكن تصوّرُه.
***
فلماذا تُراهم يصرّون على بناء هذه السّدود على ما فيها من خراب للبيئة وعلى ما فيها من قلّة الفائدة؟

إنقاذ السّدّ العالي وإفراغ المنطقة النّوبيّة من السّكّان تهئيةً لتوطين ملايين الفلاّحين المصريّين
يبدو مصير السّدّ العالي محتوماً بالفشل إذا ما استمرّ الوضع على هذا المنوال. فضلاً عن ذلك، فقد فشلت الزّراعة في مصر بسبب السّدّ العالي نفسه وبسبب والإطماء الكثيف خلفه. فعندما يترسّب الطّمي، لا تترسّب معه الأملاح، بل تظلّ عالقة بالماء. هذا هو الماء المشبّع بالملوحة الذي يمرّ عبر القنوات المتفرّعة من السّدّ ليسقي الزّراعة بمصر. وقد نجم عن كلّ هذا أن أصبحت التّربة مشبّعة بالملوحة والماء، أي أصبحت سبخة، لا تصلح للزّراعة.
***
في هذا نجد الصّحافة المصريّة أكثر كرماً في مدّنا بالمعلومات المتعلّقة بمصيرنا من الصّحافة السّودانيّة. فقد كتب علي القماش. 2006. علماء مصر يؤكدون: مشروع الظّهير الصّحراوي فاشل ولا خرائط له رغم تخصيص ملايين الجنيهات لتنفيذه. صحيفة الشّعب. 14/11/2006. متاح عالميّاً في الموقع الخاص بالصّحيفة: http://www.alshaab.com/news.php?i=2102. روجع في يوم 15/11/2006، ما يلي:
"... كشف العلماء والمتخصصين عن سلبيات فادحة للمشروع وما يسببه فى إهدار الآف الأفدنة المزروعة فى كافة أنحاء مصر.. وأن الحكومة لا تملك خرائط للمشروع .. ووصفوه بأنه مشروع فاشل ..." وذلك في
ندوة تنمية الصحراء والبيئة والتى تناولت مشروع الظهير الصحراوى التي تحدث فيها [المهندس] إبراهيم سبسوبة، وكيل أول وزارة الرى الأسبق، متناولاً بالحقائق السلبيات الفادحة للمشروع، فقال: "لقد علمت أن هذا المشروع باهظ التكاليف والأخطر أنه سيقضى على الزرع والضرع فى الأرض الحالية والمزروعة منذ سنوات طويلة إذ أن من البديهيات أن الأرض أعلى منسوبًا ترشح مياهها إلى الأرض الأقل منسوبًا فتزيد من ملوحتها إلى أن تتلفها وتجعلها غير صالحة للزراعة وبالتالى أن ملايين المزارعين الذين يعيشون عليها منذ الجدود سيتعرضون للفقر والتشرد ... فالأرض الصحراوية المزمع زراعتها والمسماة بالظهير الصحراوى هى الأراضى الصحراوية المحيطة بالوادى وهى أعلى منسوبًا من الأراضى المزروعة".
***
وعلى هذا يقدّم المهندس سبسوبة مقترحاته لحلّ هذه المشكلة جذريّاً، وذلك "... من خلال إقامة سد جديد يسمح بمرور الطمى، وهو ما ينقذ مشروع السد العالى نفسه، والذى يتراكم الطمى بجواره ويعلو سنويًا وخماسياً فى وقت يؤثر فيه على السد ذاته وعلى مخزون المياه، بينما تكلفة رفع الطمى مرتفعة للغاية مما تجعل العمل غير اقتصادى. هذا المشروع الذى يقترحه م. سبسوبة، وذهب إلى موقعه أكثر من مرة على الطبيعة، ويعرفه كبار الخبراء والمتخصصين فى الرى، يعتمد بداية على التعاون مع السودان بإقامة السد المطلوب قرب مدينة دلفو [يقصد :دلقو"] بالقرب من الجندل أو الشلال الثالث ويتفرع من أمامه فرع للنيل (قناة) تحمل الطمى مع المياه حتى تصل إلى أسوان وتمر بين السد العالى وخزان أسوان القديم ...".
***
 ويواصل المهندس سبسوبة، وكيل أوّل وزارة الرّي الأسبق بمصر قائلاً: "ويمتد جزء منها إلى توشكى هذا المشروع يعتبر سفينة نوح لإنقاذ مصر فهو لن يخل بالمعاهدات الخاصة بحصة مصر من مياه النيل وسيزيد التعاون مع السودان وسيعالج خصوبة التربة وإيقاف زحف تآكل سواحل مصر الشمالية وإعادة التوازن لقطاع نهر النيل والترع الرئيسية والحياة الطبيعية.. كما أن مد فرع إلى توشكى سوف ينقذ المشروع ويجعله اقتصاديًا حيث ستأتى إلى المنطقة مياه محملة بالطمى والغرين دون حاجة إلى محطات الرفع العملاقة الموجودة هناك والتى تستهلك طاقة مكلفة".
***
فهل بعد هذا من مغالط؟

إفراغ الشّمالية من السّكّان بحجّة بناء السّدود وتوطين خمسة مليون فلاّح مصري
نفى السّيّد الفريق عبد الرّحيم محمّد حسين هذه التّهمة في إطار تنويره للمفتربين بالرّياض عاصمة السّعوديّة. فقد جاء الخبر في جريدة الرّأي العام، السّبت 15 مارس 2008، العدد ،3772 تحت العنوان التّالي: "الحكومة تنفي اعتزامها توطين 5 ملايين مصري بالشمالية: الفريق عبدالرحيم: الهدف من سد كجبار إعادة مهاجري النوبة الأوائل".. "ونفت في ذات السياق وجود وثائق او اتفاقيات تؤكد عزمها توطين خمس ملايين مواطن مصري بالشمالية ... وقال ان قلة الكثافة السكانية بشمال السودان تعتبر واحدة من مهددات الامن القومي مستشهداً بما حدث في حلايب ... ونفى عبد الرحيم محمد حسين ما يشاع عن وجود اتفاقيات تسمح بتوطين خمسة ملايين مواطن مصري بشمال السودان وقال ان السودان أرض هجرات وان به سبعة ملايين مهاجر من غرب افريقيا وبالتالي ليس هنالك ما يمنع استقبال خمسة ملايين مواطن مصرى...".
***
فأين النّفي هنا؟ أوليس فيما قاله السّيّد الوزير إثبات لما نُسب إليه من قبل في الموقع الإلكتروني لمركز الأهرام للدّراسات الإستراتيجيّة، وهو ما يستند عليه النّوبيّون في أنّ الحكومة قد عقدت هذا الاتّفاق مع مصر سرّاً؟ ولنركّز على دفوعات السّيّد وزير الدّفاع بخصوص حلايب والكثافة السّكّانيّة؛ أوليست حلايب محتلّة الآن؟ فالخبر الحقيقي هنا هو استحسان وعدم استبعاد وزير الدّفاع السّوداني لإمكانيّة توطين 5 ملايين مصري، وليس النّفي.
***
دعونا نقتبس لكم ممّا قاله السّيّد عبد الرّحيم محمّد حسين (وكان حينها وزيراً للدّاخليّة) في ندوته أمام خبراء مركز الأهرام للدّراسات الإستراتيجيّة بالقاهرة في يوم 7/1/2005م، وذلك نقلاً من الموقع الإلكتروني التّالي: http://www.ahram.org.eg/archive/index.asp?CurFN=file5.htm&DID=8359
"شدّد اللواء عبد الرّحيم محمّد حسين في عرضه على أنّ مجرى نهر النّيل في المنطقة الواقعة بين الخرطوم حتّى وادي حلفا في الشّمال أكثر طولاً من ذلك الجزء من النّهر الذي يمرّ في الأراضي المصريّة وأشار إلى مفارقة هائلة تتمثّل في أنّ سكّان مصر الذين يتركّزون بشكل أساسي حول ضفّتي النّهر يبلغون تقريباً 70 مليون نسمة بينما يعيش 1.2 مليون نسمة فقط في المسافة من الخرطوم إلى وادي حلفا. وإذا كانت التّقديرات تشير إلى أنّ عدد سكّان مصر سوف يصل إلى 100 مليون نسمة بعد عشرين سنة من الآن فأين سوف يذهبون وإلى أين سيكون التّوجّه المصري لمعالجة هذا الموقف؟ في هذا الإطار أشار الوزير السّوداني إلى أنّ مصر اتّجهت اهتماماتها السّياسيّة والفكريّة والثّقافيّة طوال الخمسين عاماً الماضية إلى الشّمال ولم تلتفت إلى حدودها الجنوبيّة وأنّه قد حان الوقت لوضع إستراتيجيّة تكفل تحقيق المصالح الحيويّة لقطري وادي النّيل حيث إن الأوضاع الحاليّة تستوجب أن يكون التّحرّك المصري هو باتّجاه السّودان على الأقلّ لحل مشاكل مصر الغذائيّة والسّكّانيّة وفي الوقت نفسه المساهمة في تحقيق التّنمية والاستثمار الأمثل للموارد في السّودان بشكل متوازن ومتبادل لمصلحة كلا الطّرفين".
***
وبخصوص نفس النّدوة، يمكنكم أن تراجعوا الموقع التّالي: http://www.ahram.org.eg/acpss/:
"وتحدث المسئول السودانى عن أهمية هذا الاتفاق مستنداً على أن الهجرات العربية والإسلامية إلى السودان شكلت هوية السودان فيما بعد ولكن تلك الهوية واجهت صعوبات بسبب توقف الهجرات العربية وخاصة من الجزيرة العربية المنطقة الأقرب إلى السودان وحدوث فى المقابل هجرات من دول غرب أفريقيا حيث يوجد 7.5 مليون منهم فى شرق السودان وهذا كان له أثره فى تحديد هوية السودان حيث أثرت تلك الهجرات على التركيبة السكانية وشكلت خطورة فى تغيير تركيبة السودان العرفية ككل وإخلال التوازن العربى - الأفريقى، حيث يعانى وسط السودان من فراغ وهذا الفراغ إذا لم يتم امتلائه من مصر وهي الأكثر حاجة إليه فأنه سيتم امتلائه من الآخرين فحتى إسرائيل أرادت أن يكون لها وجود فى السودان".
***
فأيّ الحديثين المنسوبين للسّيّد وزير الدّفاع تريد من النّوبيّين تصديقه؟ ملء المنطقة بالنّوبيّين، بما في ذلك محس الخوجلاب، أم بالمصريّين حسبما نسبته له هذه المواقع المصريّة الرّسميّة؟ هذا سؤال ضمن الأسئلة العديد التي نتركها للحكومة كيما تحاول الإجابة عليه. لكن ليس قبل أن نُشير إلى ما ورد وبالبونط العريض وفي الصّفحة الأولى من جريدة الصّحافة، العدد5260 بتاريخ 26/5/2008م: ترتيبات لتوطين 5 ملايين فلاّح مصري بالجزيرة.
***
عندها ضحك النّاس، وشرُّ البليّةِ ما يُضحك. فقد بلغ عدم الحياء بالقائمين على أمرهم حدّاً أصبحوا معه لا يستحون، ومن لم يستحِ فسيفعل ما يشاء. ومع هذا، لم يصدّق النّاس مسألة الجزيرة هذه؛ فمتى كان المصريّون يستوطنون في أماكن الملاريا. إذ ذهب عامّة أهل الشّمال، والنّوبيّون منهم خاصّة، إلى أن المنطقة المقصودة هي الشّماليّة، وما ذكر الجزيرة إلاّ من قبيل إفقاد الحساسيّة المنظّم (أي تدريحيّاً)، ريثما يعتاد النّاس على فكرة استيطان ملايين المصريّين بالسّودان.

تنوير النّوبيّين بين ضرورة توفّر الشّفافيّة وتحرير حلايب
جميعنا سمعنا بأنّ الحكومة قامت بتنوير النّوبيّين في الرّياض بالسّعوديّة، وذلك مساء 13/3/2008م. وفي هذا لنا أن نتساءل: لماذا يذهب وزير الدّفاع لينوّر النّوبيّين في المملكة السّعوديّة؟ إذ ما الذي يعنيه من ناحيّة رسميّة في هذا الشّأن؟ هل لمجرّد كونه نوبيّاً؟ على هذا، هل قام بتنوير من ترى الحكومة أنّ الغرق يعنيهم في المقام الأوّل، بحكم أنّه سيطولهم، ألا وهم القاطنون بالقرى المعرّضة للإغراق، حتّى يذهب إلى من هم بالسّعوديّة ليقوم بتنويرهم؟ أوليس هؤلاء هم أنفسهم الذين قامت إدارة السّدود بتصنيفهم في سدّ مروي على أنّهم غير جديرين بالتّعويض بحجّة الغياب الطّويل عن القرية؟ فهل يعني هذا التّنوير الرّسمي اعترافاً من الدّولة بحقّهم في التّعويض؟
***
إنّنا نرى أن النّوبيّين في أيّ مكان في العالم معنيّون بما يجري في موطنهم الأمّ؛ فهل هذا هو نفسه رأي الحكومة؟ هل هذا هو نفسه رأي إدارة السّدود؟ دعك من كلّ هؤلاء، هل هذا هو نفسه رأي سيادة وزير الدّفاع؟ ثمّ هل علموا بأنّ النّوبيّين في الخرطوم، وليس في السّعوديّة، ممثّلين في جمعيّاتهم الخيريّة، قد ظلّوا لشهور يطرقون أبواب إدارة السّدود بغية كلمة واحدة بخصوص ما أعلنته من نيّة لإقامة سدّي دال وكجبار دون أن تظفر من هذه الإدارة الإمبراطوريّة بردّ واحد؟ وحتّى لا يكون الكلام معمّماً، دعونا نذكر لكم جمعيّة صاي الخيريّة بالخرطوم، فقد قامت بإرسال خطاب رسمي قبل أكثر من ثلاثة شهور لإدارة السّدود، كيما تقوم بانتداب أحد مسئوليها لتنوير أهالي صاي خاصّة والنّوبيّين عامةّ بأمر سدّ دال، دون أن يظفروا بأيّ ردّ ينطوي على أيّ احترام لمصائر النّاس.
***
إذن لماذا تقوم إدارة السّدود بتنوير النّوبيّين في السّعوديّة، وهم من سترفض الاعتراف بحقّهم في التّعويض، بينما تترفّع إدارة السّدود عن تنوير من هم بالخرطوم؟ ثمّ لماذا وزير الدّفاع ليقوم بهذه المهمّة، وهو الذي يتّهمه النّوبيّون على أنّه عرّاب تفريغ الشّمال النّوبي بغية توطين ملايين المصريّين؟
***
ثمّ إذا كنّا سنتوجّه لوزير الدّفاع وهو فعلاً فريق في الجيش، مستفسرين عن موضوع السّدود وبنائها، وجدوى ذلك من عدم جدواه، فإلى من، تُرى ينبغي أن نتوجّه للاستفسار عن تحرير حلايب من الاحتلال المصري؟ وزير الرّيّ والموارد المائيّة؟ أوليس هذا هو نفسه النّظام الذي أعلن أنّه بصدد تجريد الجيوش لتحرير حلايب؟

السّاسة السّودانيّون بين السّيادة الوطنيّة والانبراش لمصر
لاحظ السّودانيّون أنّ هناك حالة من التّراخي الوطني فيما يتعلّق بموضوع السّيادة السّودانيّة، وخاصّة ما يلي نظام الإنقاذ من مسئوليّة بهذا الشّأن، بحكم أنّه الذي يسيطر على مؤسّسة الدّولة. وليس أدلّ على ذلك من اتّفاقيّة الحرّيّات الأربع التي اتّضح جليّاً الآن أنّها تختصّ بالمصريّين دون السّودانيّين. فأخفّ الموادّ الواردة في الاتّفاقيّة تلك المتعلّقة بحرّيّة السّفر والتّنقّل. غذ في مقدور المصري اليوم أن يدخل السّودان بلا فيزا، بينما لا يستطيع السّوداني الدّخول إلى مصر إلاّ بفيزا، وحتّى الفيزا لا يمكنه الحصول عليها ما لم يثبت قدرته المادّيّة بتقديم سند مالي بآلاف الدّولارات.
***
ولا يقف هذا التّخاذل في حدّ مسئولي نظام الإنقاذ، بل تعدّاه إلى مواقف العديد ممّن والى نظام الإنقاذ عبر تحالف تكتيكي أم إستراتيجي. من ذلك مثلاً ما نُسب إلى السّيّد جلال الدّين الدّقير (ريم ثروت. 2008. مصر والإمارات وقطر تزرع ٦ ملايين فدان قمح في السودان. المصري اليوم. 3/4/22008. متاح عالميّاً على الموقع الإلكتروني:
http://www.almasry-alyoum.com/article.aspx?ArticleID=99842
"كشف جلال الدوقير، وزير الصناعة السوداني، تلقي حكومة بلاده عروضاً من مصر وقطر والإمارات، لاستزراع ما يقرب من ستة ملايين فدان قمح. وقال خلال جولة لوزير الاستثمار المصري محمود محيي الدين، في إحدي شركات السكر، علي هامش زيارته للسودان أمس، إن تكلفة استصلاح واستزراع أرض تكفي لإنتاج مليون طن قمح سنوياً لا تتعدي ٢ مليار دولار، مشيراً إلي أن زراعة القمح في السودان بتقنيات حديثة ستصل بسعر الطن إلي نصف ما هو عليه بالأسواق الدولية. وأضاف الدوقير أن مصر تستورد ٦ ملايين طن قمح سنوياً، وتستورد السودان مليوني طن، ويتطلب ذلك زراعة ما بين ٣ - ٤ ملايين فدان لسد العجز في البلدين. وأكد أن السودان في حاجة إلي ٥ آلاف من الفلاحين المصريين لزراعة ملايين الأفدنة في السودان، قائلاً: «إن مصر آتية للسودان شئت أم أبيت»، نظراً لكون السودان الحل لأي مشكلة اختناق لمصر".
***
من جانب آخر، فيما يتعلّق بالجماعات السّياسيّة المعارضة، لاحظ العديد من النّوبيّين كيف ازورّت الأحزاب التي تقع في خانة المعارضة السيّاسيّة عن تقديم أيّ نقد للدّور المصري، خاصّةً في ليِّه لذراع نظامٍ متضعضع متهاوٍ، تحقيقاً لحقوق مكتسبة يُحتجُّ بها في المستقبل. وكان ممّا أثار قلق النّوبيّين حقيقة أنّ معظم تلك الأحزاب كانت قد قضت أغلب سنِيّ معارضتها لنظام الإنقاذ بمصر، وذلك عندما كانت الأخيرة ترفع لواء معارضة دولة الإنقاذ المتّهمة لديها بتدبير محاولة اغتيال رئيسها حسني مبارك. عندها رفع النّوبيّون السّؤال التّالي: هل تُراها قد شربت أيضاً [أي أحزاب المعارضة المعنيّة] من لبان العمالة المصريّة؟
***
في هذا السّياق انزعج النّوبيّون كثيراً من تلك التّصريحات التي صدرت من الصّادق المهدي. وفي الحقيقة لم تكن تلك التّصريحات قد صدرت في لحظة مناورة سياسيّة. إذ يقول الصّادق المهدي في كتابه مياه النّيل: الوعد والوعيد، 2000، صفحة 126، تحت العنوان الجانبي (الخريطة السّكّانيّة) ما يلي (ورد كلامه في عدّة فقرات بطريقة كلّ جملة في فقرة واحدة؛ من جانبنا لن نتقيّد في الاقتباس بهذا الخلل):
”الخريطة السّكّانيّة الحاليّة للسّودان معيبة. فتوفير الخدمات ومطالب التّنمية يوجب ترشيداً سكّانيّاً يجمع القرى المشتّتة وعددها حوالي 65 ألف قرية في قرى أكبر. كذلك الخريطة الاستثماريّة في السّودان تحتاج لمراجعة أساسيّة. الخريطة السّكّانيّة في مصر معتلّة؛ لأنّ كلّ سكّان مصر تقريباً يسكنون في 3% من أراضيها على شريط النّيل وفي الدّلتا. هنالك محاولات متكرّرة منذ عهد مديريّة التّحرير، والآن الوادي الجديد وتوشكي، للخروج من المواقع السّكّانيّة المعهودة والانتشار السّكّاني ـ في حركة هي عكس الحالة السّودانيّة تماماً. الخريطة السّكّانيّة الجديدة في السّودان سوف تظهر الحاجّة لحقن سكّانيّة في مناطق مختلفة في السّودان. إنّ التّفكير في تنظيم هجرة مصريّة للسّودان أكثر جدوى من محاولات تعمير أراضٍ شبه صحراويّة تكلّف مالاً وماءً كثيرا. وإذا عرضت مصر على السّودان في إطار العلاقة الخاصّة هجرة بشريّة مصحوبة بغطاء مائي واستثماري فهذا عرض لا يُرفض. كذلك إذا عرض السّودان على مصر أرضاً خصبة في أماكن صالحة للعمران، على أن تُهرع إليها أيدي عاملة مهاجرة تصحبها إمكانات استثماريّة ومائيّة فإنّه عرض لا يُرفض".
***
وتنطوي مسألة الصّادق المهدي على العديد من المخاطر، أقلّها أنّ مشكلة قدوم الفلاّحين المصريّين إلى السّودان تحت العديد من الدّعاوى، ربّما لا تنتهي بنهاية النّظام الحالي.
***
في الحقيقة، نحن في لجنة مقاومة هذه السّدود، لا نورد هذه المواقف من قيبل محاصرة الأحزاب وقادتها. أبداً! فقد وجدنا من هذه الأحزاب كلّ الدّعم، إذ وقفت بجانبنا في كلّ صغيرة وكبيرة. وفي هذا لا بدّ أنّ نشير إلى أنّ الصّادق المهدي وحزب الأمّة، قد وقفوا بجانب النّوبيّين في لحظة الشّدّة، وذلك عندما تساقط الشّهداء في يونيو 2007م، عندما خاطب الصّادق المهدي لك النّدوة الشّهيرة في يوم 15 يونيو 2007م بنادي اتّحاد المحس. بل أكثر من ذلك دعوا إلى تنظيم ورشة عمل حول السّدود. كما أشير إلى أنّ لجنة مناهضة السّدود على وعي تام بتشابك خيوط هذه الأحزاب من حيث علاقاتها ومواقفها، خاصّة فيما يتعلّق بالشّأن السّوداني المصري. فنحن آخر من سيحاصر هذه الأحزاب، وذلك لكامل إدراكنا بالمحدوديّات التي تعمل فيها، فضلاً عن استهداف النّظام الحالي لها بغية إضعافها وتجييرها. وعلى هذا يجيء استعراضنا لهذه المواقف بغية تنبيه هذه القوى التي تجد منّا كلّ الاحترام إلى ضرورة ابتناء وجهة نظر وطنيّة من شأنها أن تحفظ سيادة السّودان؛ كما ننبّه إلى المنزلقات الخطيرة التي تنطوي عليها قضيّة السّدود في شمال السّودان من أجندة خفيّة تستهدف تراب السّودان.

هل تريدون معرفة شيء عن الآثار السّالبة للسّدود؟
أنظروا إلى ما حاق بأفضل ما تمّ من تعويض عن سدّ على مستوى العالم! إنّهم أهالي حلفا الجديدة!
ذكرنا أعلاه أنّ الأربعين عاماً الماضية كانت كافية لتحويل خزّان خشم القربة إلى دلتا رسوبيّة ضخمة لدرجة أنّ الخزّان ربّما فقد ما يربو على 80% من سعته الاستيعابيّة. وقد استندنا في قولنا ذلك على ما قاله العلماء والخبراء المعتمدون لدى وزارة الرّيّ والطّاقة.
***
من ذلك ما قاله البروفيسور/ دكتور سيف الدّين من أنّ خزّان خشم القربة الذي افتُتح عام 1964م كانت سعته الابتدائيّة حوالي "... 1300 مليون متر مكعّب ولكن نسبة الإطماء العالية التي يحملها نهر عطبرة بفرعيه سيتيت وأعالي عطبرة أدّت لنقصان حجم كفاءة البحيرة إلى 840 مليون متر مكعّب في عام 1972م" [سيف الدّين حمد عبدالله، 2007]. ويعني هذا أنّ بحيرة الخزّان فقدت ما نسبته 35% من القدرة التّخزينيّة في الثمّاني سنوات الأولى من عمره فقط. تُرى كم تبلغ السّعة التّخزينيّة الآن لهذا الخزّان المسكين، أي بعد أكثر من أربعين عاماً انقضت منذ إنشائه؟
***
ردّاً على هذا السّؤال يقول البروفيسور/دكتور سيف الدّين حمد عبدالله، وهو الخبير الذي يعمل بوزارة الرّيّ والموارد المائيّة: "تجدر الإشارة بأنّ السّعة الحاليّة لخزّان خشم القربة قد تناقصت بسبب الإطماء إلى 50% من السّعة الابتدائيّة للخزّان حسب المسح الباثيمتري لعام 1992م والآن إلى أقلّ من 50%" [المصدر السّابق]. نعم إلى أقلّ من 50% الآن، لكن إلى كم بالضّبط؟ وكلمة "أقلّ" هذه يمكن أن تحتمل 45%، أو 25%، أو 05% فقطّ.
***
وبالطّبع لا يحتاج القارئ العابر، دع عنك القارئ المتمعّن، إلى عبقريّة كيما يستنبط النّسبة المئويّة البائسة، وذلك بقسمة 43 عاماً على ثمانية أعوام، مع هامش خطأ error كريم يبلغ 27 عاماً تناوم فيها الإطماء دون أن يفعل فعله، لنصل إلى ما نسبته 70% على أقلّ تقدير هو فاقد الّسعة التّخزينيّة لخزّان خشم القربة.
***
أي أن هذا الخزّان لم يعد فقط صالحاً بالمرّة لتخزين الكمّيّة التي من أجلها بُني، بل سيصبح غير قادر لتخزين أيّ مياه بعد حوالي 20 عاماً من الآن.
***
والآن وبعد أربعين عاماً من تهجير النّوبيّين وتوطينهم بخشم القربة، تبدو الصّورة قاتمة، ومنذرة بكارثة لا تبقي ولا تذر إن لم يسعَ صفوةُ النّوبيّين لتلافيها ـ لا شيء يمكن أن يُطلب من الحكومات غير أن تكفّ يديها عن النّاس، فتصوّر! فبانهيار مشروع خشم القربة، النّاجم عن قلّة المخزون المائي بما لا يكفي لرّيّ المشاريع جرّاء الإطماء، فضلاً عن التّدهور البيئي من باعوض وذباب وأمراض مزمنة بالتّالي، إضافةً إلى النّباتات والشّجيرات الضّارّة، مثل المسكيت، شرع النّوبيّون في هجرة جديدة نحو الخرطوم هذه المرّة.
***
فإن يكن إخوةٌ لهم قد قاموا بتعمير أطراف الخرطوم مثل الكلاكلات والحاج يوسف في سبعينات وثمانينات القرن المنصرم، فذاك زمانٌ ولّى بخيره العميم إذا ما قيس بهذا الزّمن الكالح. فالمهاجرون الجدد من قبيل نوبيي حلفا الجديدة لم يجدوا غير أطراف الأطراف عساهم ينجحوا في إيجار منزل مبني بالطّين الآجر، دع عنك ابتناءه. هنا لم يجد النّوبيّون غير جنوب الكلاكلات مثل الفتيح أبو عشر، أبو حراز، الشّقيلاب وطيبة الحسناب قريباً من جبل أوليا. هناك تكاثر بهم العدد حتّى أطلقوا على بعض الأحياء أسماء من قبيل فرص ودبيرة إلخ.
***
ولكن هؤلاء المهاجرين الجدد لم يكن لهم مصدر واضح للرّزق، وذلك بحكم أنّهم كانوا يمارسون الزّراعة التي وجدوا آباءهم عليها فما بدّلوا تبديلا. وبما أنّهم يعتبرون آخر أفواج النّازحين من الرّيف إلى المدينة بين أهلهم، في زمن تسابق فيه القادرون على الرّحيل وتدبير العيش في البندر قبل ذلك بعقود. عليه، قعود هؤلاء بالرّيف إنّما جاء من باب قصر الحيلة وانعدامها. وعلى هذا واجه هؤلاء النّازحون الجدد مشكلة تدبير مصدر للرّزق. ولكن كيف وأين؟ هنا انبرى للمهمّة بعض نشطاء الصّفوة النّوبيّة ممّن يمتّ إليهم هؤلاء النّازحون بصلات القربى المباشرة. فماذا فعلوا يا تُرى؟ بالطّبع كوّنوا لهم جمعيّات خيريّة، وليس "أشطر" من النّوبيّين في مثل هذا النّشاط.
***
فماذا فعلوا بجمعيّاتهم الخيريّة هذه؟
***
اتّبعوا خطّتين متكاملتين، الأولى كانت اتّصالهم بأصحاب الصّناعات في الخرطوم بحري وأمدرمان، لمدّهم بعمالة غير ماهرة. أمّا الخطّة الثّانية، فكانت اتّصالهم بالمنظّمات الدّوليّة العاملة في مجال إغاثة النّازحين. وبالفعل نجحوا في الخطّتين أيّما نجاح، لكن ليس بدون ضريبة. ففي مجال تخديم أهليهم النّازحين لم يجدوا فرص عمالة بخلاف الورديّات المسائيّة، فقبل بها أهلهم، والمضطرّ يركب الصّعب. أمّا في مجال منظّمات الإاثة، فقد اشترط أغلبها ألاّ يفصح النّوبيّون عن حقيقة أنّهم يتلقّون إعانات بوصفهم نازحين. فقد خشيت هذه المنظّمات من ردّة فعل النّظام الحاكم، لما يشتمل عليه تصنيف نوبيّي حلفا الجديدة كنازحين يستحقّون الإعانة والإغاثة. وقد أثّر هذا على انسياب وتنامي الإعانات، ذلك كونها لا تأتي عبر الباب، بل عبر الشّبّاك، أي "مُسارقة".
***
ولكن أخطر الآثار السّالبة كانت في مجال التّخديم الليلي للنّوبيّين. فقد كان أغلب من انخرطوا في ورديّات المصانع الليليّة من الرّجال كبار السّنّ (55-65) النّساء اللائي تراوحت أعمارُهنّ بين 45-65، ثمّ النّساء دون ذلك والفتيات. على هذا كانت المرأة تنتهز فرصة التّرحيل الذي قد تمتدّ مدّته إلى ما يقرب من السّاعة ونصف، فتغمض جفنيها إذ يلفحها هواء الصّباح البارد، لتحلم بأنّها قد وصلت المنزل قبل أن يغادر أطفالُها الصّغار إلى المدرسة. ولكن هيهات، هيهات، ففي أغلب الحالات تجدهم قد غادروا المنزل إلى مدارسهم في وضع لا يعلم به غير الله. ومحظوظون أولئك الذي استقدموا معهم حبّوبتهم أو جدّهم من وطنهم الثّاني ( حلفا الجديدة) ليقضي مع الأطفال أمسياتِهم الخالية من دفء الأمّ وحنانها؛ وهؤلاء (الحبّوبات والأجداد) غالباً قد عايشوا مرارةالهجرة وفقدان وطنهم الأوّل (حلفا القديمة)، فها هم في تغريبة ثالثة. فكأنّما حكمت الأقدار عليهم بألاّ يستقرّ لهم حال لا لأيّ ذنبٍ جنوه، فواهاً لهم في الصّغر يتغرّبون، ثمّ في الكِبَر يتغرّبون، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله، وأنِ الحمدُ لله الذي لا يُحمد على مكروهٍ سواه.
***
في وضع كهذا كان من المنطقي والطّبيعي أن تشهد هذه الأسر النّازحة العديد من صور التّفكّك الأسري، فضلاً عن الفاقّة والإحساس بالمهانة والهوان ثمّ الغبن. فهؤلاء هم أهالي حلفا (درّة المدائن)، صفوة المجتمع النّوبي، وأهل المدنيّة والحضارة. بلى هؤلاء كانوا أهلها، فأبادهم وأخرجهم من ديارهم سوء المنقلب من لدُنْ حكّامٍ ظالمين، نزع الله عنهم الحكمة، وابتلى بهم عبادَه الصّالحين.
***
وفي الحقيقة، من بين أربعين حالة إعادة توطين جرّاء إقامة السّدود تمّت دراستها لعشرات الأعوام على مستوى العالم، اتّضح أنّ حالة واحدة فقط هي التي تحسّن وضعها نحو الأفضل عمّا كانت عليه، بينما تدهورت الأوضاع بطريقة مزرية وغير مقبولة إنسانيّاً في جميع الحالات الباقية. فإذا كان التّعويض الذي ناله أهالي حلفا القديمة يُعتبر حتّى الآن أحسن تعويض، قياساً بما عليه حال منكوبي السّدود في الحامداب وأمْري والمناصير، ثمّ إذا كان هذا ما يحيق بأهالي حلفا القديمة بعد أربعين عاماً من الهجرة، تُرى ما هو المصير الذي ينتظر منكوبي السّدود القائمة والتي ستُقام في مقبل الأعوام القريبة حسبما قالت به إدارة السّدود؟

ماذا عن الآثار؟
عادةً ما يذهب السّفهاء من أتباع النّظام إلى أنّ السّبب في رفض النّوبيّين لبناء السّدود، وبالتّالي رفض التّنمية [كذا!]، هو تمسّكهم بتراثهم الحضاري كيلا يضيع بالغرق. ومع وجاهة هذا الاتّجاه، والذي ينظر إليه النّوبيّون على أنّه تهمةٌ لا يُنكرونها، وشرفٌ لا يدّعونه، إلاّ أنّ هذا ليس السّبب الوحيد حسبما سردنا أعلاه. ولهذا ترونا قد أخّرنا الحديث في هذا الشّأن تبياناً لخطل بناء السّدود حتّى لو كانت المنطقة خالية من آثار الحضارات القديمة.
***
يشتمل إقليما السّكّوت والمحس ومجمل المنطقة المتأثّرة بسدّي دال وكجبار على مجموعة من المواقع الأثريّة بالغة الأهمّيّة، وذلك في كلٍّ من كُلْب وكوشة، ومُقركّة، ثم عمارة غرب، وعبري، وأسفل جبل عبري، وجزيرة صاي، وجزيرة نلوتّي، وغرب صاي بمنطقة ساقية العبد، وصادينقا جنوب نلوة، وصلب، وماريان بود. ثمّ في تيناري، وأعلى وأسفل جبل دلقو، وجزر قرقود، ثمّ في سيسبي، وكدا موسى، وكِدْ أُرما، ثمّ أردوان، ثمّ مسيدة، وخور هبراب، وتمبس، ثمّ جزيرة سِمِد، فناب ثمّ مُسُل، ثمّ في مجمل المنطقة من أعلاها إلى أدناها. وتشمل هذه الآثار على جميع المراحل التّاريخيّة، من العصر الحجري، فالعصر الكوشي الكرمي، فعصر الأسرات المصريّة، فالعصر النّبتي المروي، فالعصر النّوبي المسيحي، انتهاءً بالعصر الإسلامي.
***
وما يزيد من خطورة الوضع أنّه، بخلاف المواقع الأثريّة المعروفة والظّاهرة للعيان، لا تزال هذه المنطقة غير ممسوحة أثريّاً، الأمر الذي يعني أنّه لن يكون في مقدور أيّ بعثة إجراء تنقيبات فيها. إذ لا بدّ أوّلاً من إجراء المسح الأثري لتحديد طبيعة الموجودات وفتراتها التّاريخيّة، ومن ثمّ نشر كلّ ذلك، كيما تقوم كلّ جهة حسب رغبتها في الحقبة التي تعنيها بالشّروع في التّنقيب.
***
على هذا يمكننا تكوين فكرة عن المهدّدات التي ينطوي عليها أمر بناء هذين السّدّين تحديداً. فهذه الآثار ليست ملكاً للسّودانيّين أو للنّوبيّين وحدهم، بل هي ملك للإنسانيّة جمعاء. وما حدث في منطقة الشّلاّل الرّابع يكشف لنا ما يمكن أن يحدث في منطقة السّكّوت والمحس. فهناك سوف تغرق المنطقة ونفقدها إلى الأبد دون أن نكون قد عرفنا عنها الكثير، وذلك بحكم أنّ المسوحات والتّنقيبات كانت إنقاذيّة، أي يحكمها عنصر الاستعجال. ولا نعلم حتّى الآن المبلغ المالي الذي قامت به وحدة بناء السّدود بدعم الأنشطة الأثريّة مسحاً وتنقيباً. إذ تصرّ وحدة بناء السّدود على التّعامل مع الأفراد وليس المؤسّسات في هذا الشّأن الخطير. ولذلك عادةّ ما تقوم باستكتاب الأشخاص، وليس المؤسّسات عقد عمل بحثي بينها وبينهم، ومن ثمّ استكتابهم شيك ضمان بالمبلغ الذي تقوم بدفعه دعما للعمل.

النّوبيّون والبدائل التّنمويّة
ولكن لماذا كل هذا والنّوبيّون لديهم البدائل التّنمويّة؟
***
ذلكم هو تنمية الحوض النّوبي والذي يشتمل على ما يفوق 6 مليون فدّان تّروى من أكبر بحيرة جوفيّة في أفريقيا والشّرق الأوسط، وتقبع أبعدها عن الأرض في أعماق لا تتجاوز الخمسين متراً بأيّ حال من الأحوال؟ إنّه المشروع الذي ظلّ النّوبيّون يكتبون عنه منذ تسعينات القرن المنصرم، دون أن تلتفت لهم الدّولة ولو من باب المجاملة
***
وحتّى لا يكون الكلام معمّماً، دعوني أقول لكم إنّه توجد لدينا منذ حوالي حوالي 7 سنوات دراسة جدوى كاملة لهذا المشروع، والذي من شأنه أن يحقّق تنمية غير مسبوقة في العالم الثّالث. وتجمع الشراكة لمشروع الحوض النّوبي بين طرفين رئيسيّين: وطني ودولي (على غرار شراكة مشروع الجزيرة التي ضمّت في طرفها الوطني المزارعين أنفسهم).
***
في جانبها الوطني تمثّل جماع الشّراكة حزمة الاتحادات الزراعية التعاونية بأقاليم النوبة النيلية الأربعة (دنقلا، المحس، السكوت، وحلفا). توزّع المساحة المزروعة بالأفدنة على كل إقليم، ومن ثم توزّع على كل قرية ممثلة في مشروعها الزراعي على أن توزّع هذه بدورها على مزارعي القرية ليقوموا بمهمة الزراعة والمتابعة والحصاد حتى مرحلة التعبئة وذلك تحت إشراف الهيئة العليا للاتّحادات الزراعية التعاونية بالتنسيق مع الجهات الممولة، أي الطّرف الدّولي والذي تقوم فيه الشّراكة بجمع حزمة من شركات السيوبرماركت الضّخمة بأوربا بضمانة الاتّحاد الأوربي ضمن حملة رفع الفقر عن أفريقيا.
***
بهذا، وبهذا وحده، يمكن أن نحلم بأن يعود النّوبيّون الذي هجروا قراهم ونجوعهم الطّيبة. فبما أنّ الذي أخرجهم من قراهم كان السّعي وراء الرّزق والعيش الكريم، فإنّ ما سيُعيدُهم إلى قراهم أيضاً هو ضمان الرّزق والعيش الكريم.

 



Source: www.tahalof.info


رأي ـ تعليق  



ملف السدود - محمد جلال هاشم

الموضوع جميل جدا واتمني تكاتف النوبيين جميعا برفض التهجير الثاني لهم مهما كلفهم من تضحيات ، كما اتمني ان اجد مرشح للولاية من مناطقنا وايضا في المجلس ، سامع هذه الايام باننا خارج دائرة الترشيح ومنطقة المحس في الباي باي ، ارجو الطعون في ذلك وطلب مقعد لمنطقة المحس خال الشهيد شيخ الدين حاج احمد - قرية نوري المحس
رضاء الدين


ملف السدود - محمد جلال هاشم

تحية وتقدير هذا الموضوع ممتاز كذلك نشكركم على هذه الروح الوطنية وحبكم للسودان وانا من الجزيرة وسط السودان يخز في نفسي المظالم التي جرها هذا النظام لم اقل فاسداً والتخريب المتعمد لكل البنيات التحتية خاصة اهمال مشروع الجزيرة في السودان كذلك اتعاطف مع النوبة لمعانتهم وهم اولى بالعيش الكريم لانهم صنعوا لنا حضارة راقية قبل مصر ومنهم انطلقت الكتابة والقراءة والتنوير واني احبكم تحياتي اخوكم محمد احمد
محمد احمد


هل قرأت المقال اعلاه؟   
اكتب    
 
 
 
 
 
  
site created & hosted by