# # # #
   
 
 
[ 14.08.2008 ]
وطني ليس حقيبة وأنا لست مسافر ـ أمير بابكر عبدالله




الوقت صيف أو شتاء، ليس مهماً، ما دام الحب باقٍ، أو كما تطلق فيروز عقيرتها بالغناء بصوتها الخلاًّب:

بحبك بالصيف

بحبك في الشتي

ولكن كان مطلوباً من محمود درويش أن يغادر، ترغيباً أو ترهيباً. أن يغادر أرض فلسطين إلى تونس حينما انسدت المنافذ أمام منظمة التحرير الفلسطينية لتنقل نشاطها إلى هناك، وهو أحد عرب إسرائيل، وليس أي أحد. لحظتها انفجر البيت القصيدة أو البيت الحكمة:

وطني ليس حقيبة وأنا لست مسافر

تملكني هذا البيت وقتها، ولست وحدي بل مجموعة من الشباب. كنا نتطلع إلى نضال الشعب الفلسطيني من زوايا مختلفة، منا من يقف وراء حركة تحرير فلسطين، وبعضنا يرتكز على قدرات الجبهة الشعبية لتحريرها في إثارة الرعب حول العالم، وآخرون وراء الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، إلاًّ الحزب الشيوعي فقد كان فلسطينياً وهناك من يناصره من جملة مجموعتنا. كان ذلك في أوج نشاط ثورة الشعب الفلسطيني التي تستظل بمنظمة التحرير التي ترأسها الراحل ياسر عرفات زعيم حركة تحرير فلسطين، قبل أن يكون للأسلاميين من جهاد وحماس دور يذكر أو دور مقارن.

حدثان استوقفاني في تلك المسيرة؛ الحدث الأول يوم أن غادر محمود درويش بعد إطلاقه هذه المقولة الحكمة، غادر بعدها فلسطين بوقت قصير وكأنما أراد أن يكسر فينا شيئ ما بحدة ودون مجاملة. لم يراع أثر تلك المقولة في نفوسنا الشابة، أما الثاني يوم أن استمعت لتلك الأمسية الشعرية النارية لسميح القاسم في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي في إحدى صالات النشاط الطلابي بموسكو.

لحظتها أدركت الأمر؛ ما بين هتافية سميح القاسم الشاعرية وشاعرية محمود درويش الهتافية أدركت كيف يمكن أن تضيع القضية، وأن الوطن يمكن أن يكون حقيبة  وأن هذا الهراء السائد الآن يمكن أن يحدث مما يدعو المرء ليحمل وطنه في حقيبته ويسافر. وهذا ما فعله درويش عندما ضايقه الإسرائليون، أو ضايق وجوده الإسرائليين عندما فشلوا في قهر الوجدان الشعري، بينما نجحوا في تشريد القضية الأم، قضية أرض فلسطين وشعبها.

شعب يتوق للعودة إلى وطنه، يقاتل ويكافح من أجل العودة لرقعة من الأرض والوجدان ينتمي إليهما، بعد أن باعها الأقوياء وبعض الأبناء. ولكن هل للبيع أن يتوقف؟ صور كثيرة بيعت بها الأرض، ولا يهم الآن ما فعله الأقوياء لأنهم خططوا لذلك جيداً، وحشدوا قدراتهم السياسية والعسكرية والقانونية، ولكن ما يهم هو ما فعله الأبناء.

يروي لي كفاح، رفيقي في الغرفة ، وهو شقيق لأحد قادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، يروي حكاويه .. حكاوي القتال الفلسطيني الفلسطيني. وكيف يتم البيع إذاً؟ عيناه تكسوهما نشوة بطولة  لا تناسب الموقف والفكرة ولكنها تتسق مع روح الطلاب، وذلك حين يروي عن دوره في معركة شرسة دارت بين فصيلهم وفصيل آخر .. والمعركة ليست في فلسطين وإنما في المنفى. يعيبون على إسرائيل أن تقتلهم وتشردهم، وهم يقتلون أنفسهم أثناء تشردهم.

إنه اختلال الأولويات، ليس بالنسبة للفصائل الفلسطينية فحسب بل في كثر من دهاليز السياسة في دولنا، أن تغيب بصائرنا عن قضيتنا الرئيسية وتزوغ أبصارنا في اتجاهات انصرافية لتحدث ذلك الخلل. هل نرمي اللوم على إسرائيل وأمها أمريكا؟؟ غابت بصيرتهم، وبعد أن كانت الأولوية هي إقامة الدولة الفلسطينية وعودة اللاجئين بعد هزيمة الاحتلال، صارت الأولوية هي أن ينتصر الفلسطينيون على أنفسهم أولاً إن أرادوا تحقيق هدفهم الاستراتيجي.

ولكن الانتصار على النفس ليس بإدارة معاركهم ضد بعضم، وإنما انتصارها بهزيمة دواعي تلك المعارك ومن ثم الالتفات لقضيتهم الرئيسية التي تكونت فصائلهم الفدائية من أجلها. وهو ما غاب عنهم.

لماذا لا يسافر محمود درويش، ولماذا لا يموت، حتى، بسبب القلب في مستشفى أمريكي؟ إن ما يجري الآن، بل ما جرى حتى الآن يصيب القلب والعقل في مقتل، كان حري بدرويش أن يموت منذ وقت طويل وهو الشاعر الذي حمل وطنه في حقيبته وسافر رغماً عنه.

والزمن يمضي ليدخل حلبة النضال الفلسطيني الإسلاميون بثقلهم، بعد أن أزاح اليمين العالمي بقوته وحيلته قدرات اليسار العالمي لتأتي أوسلو ، ترسم خارطة طريق.. ترفع شعارات السلام مقابل الأرض لتقوم دولة فلسطينية مجنَّحة بعد الاتفاق. يذهب الجميع إلى صناديق الاقتراع بعد طول جدل، ثم تنتخب الحكومة الفلسطينية. وكعادتنا دائماً، الديمقراطية تعجبني عندما تأتي بي إلى سدة الحكم وأنظر إليها بعين الريبة عندما تأتي بغيري. وهكذا جاءت نتائج الانتخابات لا تعجب البعض، خاصة وأن العالم تحكمت فيه عقدة الحادي عشر من سبتمبر، ولعب الأقوياء دورهم حسبما تقتضي مصالحهم والتي تقاطعت مع مصالح البعض الفلسطيني في جزء منها، وهو الجزء المهم بالنسبة لها (السلطة).

تجادلنا نحن كثيراً عندما فازت حماس بالأغلبية، وإن كانت ستستمر في الخضوع لقواعد اللعبة الديمقراطية أم إنها ستتخذها مطية بعد وصولها لسدة الحكم لتنفيذ مشروعها، مشروع الدولة الدينية. وازداد جدلنا أكثر عند إقالتها بواسطة رئيس السلطة الفلسطينية وما قاد إليه ذلك، حيث اقتسم الطرفان شعب وأرض وسلطة ناقصة.

وتحولت المعركة، التي لم تتوقف أصلاً، من استكمال الحصول على كل الحقوق بشكل أكثر شراسة بين الفصائل الفلسطينية، وهذه المرة داخل أراضي السلطة الفلسطينية، أرضهم. يبدو أن حليمة لا تود أن تنسى عادتها. يقتلون بعضهم ويعتقلون بعضهم ويضيقون الخناق على بعضهم، حتى تضطر عائلات بأكملها للجوء إلى إسرائيل هرباً من الجحيم الفلسطيني بعد أن كانوا يهربون من الجحيم الصهيوني.

تلك المهزلة تجعل قلب محمود درويش يلعن نبضه ويعلن التوقف رغم أنف الجراحين، وتجعل المرء يتوقف ألف مرة عند معاني النضال والمزايدات التي تعلن بإسمه، مهزلة في أسمى تجلياتها عندما أوجه فوهة البندقية إلى صدري وأنا أهتف باسم قضيتي. وهي مهزلة لا تتعلق بساسة فلسطين وحدهم، فبقراءة لسيرة كثير من حركات التحرر الوطني نجدها موصومة بهذه الرزيلة، طالما هناك مصالح عامة ومصالح خاصة. وما بين المصالح الخاصة والمصالح العامة هناك خيوط كثيرة يمكن اللعب بها في مسرح عرائس السياسة.

إذاً ما بين الشاعرية والهتافية ضلت القضية طريقها، وبات الفلسطينيون يحتاجون لخارطة طريق خاصة ولسلام يخصهم أولاً قبل البحث عن فرص السلام مع أولمرت أو سلفه أو من سيخلفه. مطالبون بالبحث عن خارطة طريق تحقق انتصارهم على أنفسهم بهزيمتهم لعناصر الخلاف بينهم وقتلهم لأنفسهم.

حينها سيدق قلب محمود درويش طرباً وهو عائد محمولاً على نعش من الولايات المتحدة الأمريكية ليوارى جثمانه الثرى في الضفة الغربية. سيدق قلبه هتافاً شاعرياً:

وطني ليس حقيبة وأنا لست مسافر



Source: www.tahalof.info


رأي ـ تعليق  



هل قرأت المقال اعلاه؟   
اكتب    
 
 
 
 
 
  
site created & hosted by