# # # #
   
 
 
[ 21.04.2008 ]
نحن وباراك أوباما ـ طلحة جبريل


أقول منذ الوهلة الأولى، وهناك قطعاً جدوى من القول، إننى أتمنى بل أرجو أن يكون حظ هذا المقال من القراءة والفهم، أفضل من كل ما كتبت حتى الآن منذ أن اتيح لي تواصلاً مستمراً مع قراء أعزاء داخل الوطن وفي مناطق الشتات.


أقول هذا وفي ذهني أهمية الموضوع، بل وفي اعتقادي انني أكتب عن مسألة "مصيرية" بكل ما لهذه الكلمة من ثقل.

 موضوعي هو "رئاسة الجمهورية"، إذ ترجح تكهنات متفائلة ان تجرى انتخابات رئاسية في السودان في أبريل من العام المقبل. وطبقاً لاتفاقية نيفاشا فإن التاسع من يوليو من العام المقبل هو الحد الاقصى لانتخاب رئيس  للجمهورية. إذا حدث أن جرت الانتخابات في أبريل، وتساورني الكثير من الشكوك حول جدية التزام السلطة الحاكمة في الخرطوم بمواعيد الاستحقاقات، فإن 12 شهراً تفصلنا عن هذا الاستحقاق المهم. وإذا صحت هذه التوقعات حول موعد الانتخابات، سنكون في حاجة حقيقية الى "باراك اوباما" ليضع بلادنا على طريق "الأمل والتغيير". كيف ذلك؟ سأشرح واوضح على مهل، وفي اعتقادي ان الصحافي يجب ان يقف لحظة في حياته عليه فيها أن يقول دون تردد أو تلعثم كلمته ليجعل صوته مسموعاً ومفهوماً وفي ظني أن يكون الكلام ليس مفهوماً ومسموعاً فقط، بل مقنعاً وهذا هو الأهم.

 لكن لماذا يكون نموذجنا هو "باراك اوباما"؟
 اوباما ظاهرة استثنائية في التاريخ الاميركي الحديث، رجل يريد ان تتصالح اميركا مع نفسها وتتصالح مع العالم. يا لها من مهمة. الخلطة العرقية المثيرة جعلت من هذا المرشح الشاب يشكل أملاً للشباب الاميركي البيض والسود على حد سواء. اوباما يتحدّر من أب كيني من قبيلة "لوا" الكينية، وهذه القبيلة لها امتدادات في جنوب السودان في منطقة بحر الغزال، وام من ولاية كنساس. هجر والده أمه وهو رضيع في الثانية من عمره، ثم تزوجت والدته من مهندس اندونيسي، لينتقل اوباما إلى جاكارتا ويعيش أربع سنوات في بيئة إسلامية، ليعود بعد ذلك ويتربى في كنف جدته لأمه في ولاية هاواي. تلك المرأة البيضاء التي " كانت تخشى الرجال السود في الشارع وتتفوّه ضدهم بعبارات عنصرية" على حد تعبيره.

من هذا المسار المتعرّج اكتسب اوباما خلطته العرقية المثيرة. كان اوباما متفوقاً في دراسته بل من النجباء. وذلك ما جعله يدرس في مدرسة القانون في جامعة هارفارد التي درس فيها فطاحلة السياسة والقانون الأميركيين. أكثر من ذلك اصبح عميداً لكلية القانون في هذه الجامعة العتيدة. وبعد تخرجه انخرط في العمل الاجتماعي حتى أصبح عضواً في المجلس التشريعي لولايته الينوي، وهو ما فتح له الطريق ليصبح سيناتوراً في مجلس الشيوخ الأميركي ويحصل على أغلبية كاسحة بلغت 70 بالمائة من أصوات الناخبين، وهو الأسود الوحيد حالياً في هذه المؤسسة، والثاني في تاريخها الطويل.

ولأن طموحه يتسق مع رغباته فقد أعلن في فبراير عام 2007 من مدينة "سبرينغ فيلد" في ولاية الينوي، عزمه خوض غمار السباق نحو البيت الابيض. المؤكد أن اوباما يتوفر على شخصية جذابة وزعامية، مهارات خطابية نادرة، بارع جريء لا يهاب. يفيض ذكاء ويحيط نفسه بالأذكياء ويحترم الذكاء. يمتاز بقدر وفير من الاستقامة والعمق. تكتيكي منظم واستراتيجي ملهم. لا يبحث عن معنى الأحداث بل يعطيها المعنى الذي يريد. يتكلّم بنبرة متوقدة حماساً. ذو ثقافة واسعة وطبع هادئ لكنه لا يعرف كيف يحد من حركته مع طاقة هائلة للعمل.

لكن أهم ميزة من ميزات أوباما هو قدرته على تجميع الناس حوله حتى لو تباينت اتجاهاتهم وميولاتهم. لذلك وجدت فيه شخصيات وازنة في الحزب الديمقراطي مرشحاً يلتفون حوله، من جون كيري المرشح السابق إلى نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب، الى  بيل ريتشاردسون حاكم الولاية الوحيد من أصل لاتيني، الى آل كنيدي وتراثهم السياسي الزاخر الى الكاثوليكي بوب كيسي. وهو استقطب معظم السود، واغلبية كاسحة من الشباب البيض. وجذب اليه الفتيات من جميع الاعراق. وكان برنامجه واضحاً. ليبرالي أقرب الى اليساريين، يقف في أقصى يسار الحزب الديمقراطي، وبرنامجه الاقتصادي مع الفقراء والشرائح الاجتماعية وضد الاغنياء واللوبيات. ثم هو مع اميركا "الامل والتغيير". ومع اميركا السلام. لذلك عندما ينتقد حرب العراق ويدعو للانسحاب منذ اليوم الأول، يقول مستهزئاً من مبررات الرئيس الأميركي "بوش يقول إننا ذهبنا الى العراق لنحارب القاعدة. والحقيقة ان ذهابنا الى هناك هو الذي جاء بالقاعدة الى العراق".

وهو صاحب فكرة "قمة إسلامية مع اميركا" للحديث عن ظاهرة الحركات المتطرفة. وواحدة من افكاره اللماعة في مجال السياسة الخارجية التحاور مع الاعداء، من  محمودي احمدي نجاد في ايران حتى هوغو شافيز في فنزويلا.  أوباما أسود لكن ليس في دواخله مرارات السود الأميركيين التي توارثوها جيلاً بعد جيل من سنوات العبودبة المذلة، لانه أفريقي الأب، وليس له عقدة تجاه البيض إذ أن امه تتحدّر من أسرة كبيرة من أهم الأسر المحافظة في الساحل الشرقي من الولايات المتحدة. وهو له صلة دم من جهة الأم مع ديك تشيني نائب الرئيس الاميركي، لذلك يتهكم عليه أحياناً ويقول "ابن خالي تشيني". 

وفي تقديري أن باراك أوباما دفع  حزبه وأميركا نحو الجدار، إذا لم يختاره الحزب الديمقراطي بعد الزخم والنجاحات التي خلقها اثناء الانتخابات التمهيدية. سيؤدي ذلك الى انقسام خطير داخل الحزب. وإذا اختاره الحزب مرشحاً وهو أمر بات شبه مؤكد سيضع أميركا في حرج بالغ، بين أن تتصالح مع نفسها أو تعمق جراحاتها لأجيال وأجيال مقبلة. صحيح أن التسكّع على أرصفة في التاريخ أكثر أماناً من التزاحم في وسط مجراه الخطر، والمؤكد ان اوباما اختار ان يزاحم في المجرى الخطر.

 يبدو من الصعب ان تتكرر ظاهرة باراك اوباما في مكان آخر. لكن دعونا نفكر بكيفية واقعية في انتخاباتنا وفي ذهننا ظاهرة اوباما. أليس من المنطقي أن نتطرّق منذ الآن الى الانتخابات الرئاسية المفترضة في بلادنا؟

إذا كان مرشح السلطة الحاكم يعرفه الجميع، وحزب السلطة الحاكمة في الخرطوم، يعمل منذ الآن وفق سياسة واضحة، مؤداها اتركوا لنا الرئاسة ويمكننا أن نتفاوض معكم حول كل شيء من رئاسة الحكومة إلى الوزراء والولاة وحتى الانتخابات البرلمانية. وليس سراً أن حزب السلطة الحاكمة يتحرّك في جميع الاتجاهات من أجل هذا الغرض، لذلك يسعون للتوصل إلى "اتفاقات وتفاهمات" مع كل حزب على حدة. بل هم يشنون حملة نفسية تضغط على الآخرين بأن يبتعدوا عن الطريق ويقعدوا على أرصفته.

هم يريدون اختزال الوطن في رجل واختزال الدولة في قرار يأمر به. بالمقابل لنطرح الأشياء بوضوح، هل يمكن ان يقدم الحزبان الكبيران (الامة والاتحادي الديمقراطي) أو أحدهما مرشحاً للرئاسة يستقطب الاجماع؟ بل حتى الحركة الشعبية هل يمكنها أن تقدم مرشحاً رئاسياً؟ هل يمكن للحزب الشيوعي وقوى اليسار عموماً أن تقدم مرشحاً يحظى بالتوافق؟ هل يمكن ان تتوفر مثل هذه الامكانية لحزب المؤتمر الشعبي؟ هل تستطيع المجموعات الاقليمية في دافور والشرق ان تقدم مرشحاً يحظى بشبه اجماع؟ الجواب بكل موضوعية: لا.

إذن، إين سنجد مرشح التوافق؟ أين سنجد هذا الـ "اوباما"؟

ابتكر باراك اوباما اسلوباً فريداً في خطبه السياسية، فهو يطرح مجموعة اسئلة، على غرار هل يمكننا ان نفعل كذا؟ وهل يمكننا ان نحقق كذا؟ وهل نسطيع كذا؟ ثم بعد أن يطرح عدداً من الاسئلة يجيب جواباً قاطعاً  ترجمته "نعم يمكننا ذلك". وتحولت هذه الإجابة إلى شعار يردده ملايين من المؤيدين له في التجمعات الانتخابية.

وعلى غراره أقول "نعم يمكننا ذلك" في بلادنا. لن نجد المواصفات نفسها، ولكن يمكن ان نجد المرشح الذي يشكل نقطة تلاقٍ، يحيط نفسه بالنخب كما هو الحال مع اوباما، ويجد فيه كل شخص حداً أدنى من رؤيته السياسية. هذا الشخص يجب أن تتوفر فيه الشروط التالية:
* شخص يتمتّع بصلابة وطنية وخلقية ويؤمن بأن السودان لا يمكن أن يحكم إلا عبر مؤسسات ديمقراطية في إطار دولة حريات يتراضى حولها الجميع.
* شخص يستطيع أن يواجه مرشح حزب السلطة الحاكمة في الخرطوم مواجهة حقيقية، حتى لا تتكرر مهزلة "كيجاب" أو "نميري".
* شخص قادر على تفكيك ميراث وتراث النظام الشمولي، وتحقيق عدالة اجتماعية تهدف إلى تحقيق مجانية التعليم والصحة وتوفير كافة الخدمات الأساسية، وتكافؤ فرص العمل، وأن يصبح السكن حقاً من حقوق الإنسان السوداني الأساسية.
* شخص مثل اوباما قادر على استقطاب كل الذين بمقدورهم "صنع الرئيس" لكنهم غير مؤهلين لأسباب ذاتية أن يكونوا هم المرشحون للرئاسة.

إن هناك الكثير مما يمكن استجلاؤه والبحث في تفاصيله سؤالاً وجواباً وحواراً وفهماً لهذه الشروط بقدر ما هو ممكن.

وإذا كانت هذه هي المواصفات، هل يوجد شخص في بلادنا تنطبق عليه؟
الاجابة: نعم.
بلادنا تزخر بالكفاءات، لكن المطلوب هو المبادرة الآن. أي قبل 12 شهراً من الانتخابات الرئاسية. أن يبادر هذا المرشح الآن، ولا مجال للتلكؤ والتباطوء. ومن يختار المواجهة عبر صناديق الاقتراع عليه أن يدرك ان الانتخابات مثل الحرب إذ لا يكفي أن يكون في يدنا ما نطلق به الطلقة الأولى وإنما يجب أن يكون في يدنا ما نطلق به الطلقة الأخيرة في المعارك.

نقلاً عن صحيفة الصحافة السودانية الصادرة في 3 ابريل 2008م





Author: طلحة جبريل
Source: الصحافة


رأي ـ تعليق  



هل قرأت المقال اعلاه؟   
اكتب    
 
 
 
 
 
  
site created & hosted by